قبل الولوج لتحليل العلاقة بين غزة والأمن القومي الإسرائيلي وأين تقع غزة من هذا الأمن، ابتداءً لا بد من التأكيد أن الحروب الأربعة التي خاضتها إسرائيل في غزة والحرب الخامسة التي فاقت كل التوقعات والحسابات تؤكد فرضية أن الحرب هي الأساس والقاعدة في العلاقة، وأننا قد نرى حربًا سادسة في غياب تسوية سياسية شاملة، والفرضية الثانية أن التهدئة ليست الخيار والمقاربة التي تمنع الحرب. والفرضية الثالثة أن إسرائيل لن تسمح بتجاوز حدود القوة العسكرية للمقاومة، لأن هذه القوة تشكل من منظورها تهديدًا مباشرًا، وهذا يقودنا للفرضية الرابعة والرئيسية أن خطورة القوة في غزة ليس بحجمها ولا بمداها، ولكنها تشكل تهديدًا داخليًا.
المعنى مما تقدم أن أي سلاح في غزة، بحكم وقوعها في قلب الدائرة الأولى للأمن الإسرائيلي، يشكل مصدر قلق وتهديد حتى لو كان تقليديًا. وهذه الفرضية تجعل من الحرب أساس العلاقة بين الجانبين.
تقع غزة، وكل فلسطين تالياً، في قلب الدائرة الأولى لأمن إسرائيل، وهذا ما يفسر رفض إسرائيل قيام الدولة الفلسطينية مهما كانت الضمانات بسلميتها وديمقراطيتها، ففكرة هذه الدولة تشكل نقيضاً لأمن إسرائيل. وهذا ينطبق على منطقة القلب التي تمثلها الضفة الغربية. أما غزة، ورغم صغر مساحتها التي لا تزيد عن 340 كيلومترًا مربعًا، وفقدانها للخصائص الجيوسياسية، فهي تفتقر لمناطق القلب والعمق الاستراتيجي مما يسهل وصول القوة العسكرية لإسرائيل إلى أي مكان فيها، وهذا ما يقف وراء حجم التدمير للبنية التحتية فوق الأرض وتحت الأرض وعدد القتلى في هذه الحرب.
يميز غزة محددها السكاني، فعدد سكانها يزيد عن المليونين ويقترب من المليونين ونصف المليون، وهذا يعني أنها إحدى أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، وهنا تكمن قوتها الحقيقية، وتستمد أهميتها من تواجد حركة حماس فيها وسيطرتها الكاملة عليها، فضلاً عن حركات المقاومة كالجهاد، وهذا ما يجعل منها مصدر تهديد دائم لإسرائيل باعتبار أنَّ غزة تجاور منطقة سكانية في إسرائيل تُعرف بمنطقة الغلاف، وهذا يجعل من سلاح المقاومة ذا فاعلية وتأثير وقدرة على الوصول إلى هذه المناطق السكانية الإسرائيلية. ونظرية الأمن الإسرائيلي لا تطبق عليها المفاهيم التقليدية للأمن القومي المتمثلة في البقاء وحماية مصالح الدولة ومواجهة التهديدات الخارجية. إسرائيل، بحكم قيامها على أساس عنصر القوة وعلى حساب الفلسطينيين الذين شردوا من مدنهم وقراهم ويعيشون الآن في الشتات والمخيمات، تعتبر التهديد صفة دائمة وملاصقة لوجودها حتى مع قيام السلام مع أي طرف.
فلسطينيًا، ورغم الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة وتوقيع اتفاقات أوسلو، بقيت الاعتبارات الأمنية هي التي تحكم العلاقة بين الجانبين. الجنرال الإسرائيلي يسرائيل طالفي في كتابه "الأمن القومي" يعرف الأمن باعتباره ضمان وجود الأمة والدفاع عن مصالحها. أما الجنرال يهو شفاط، وفي كتابه "حرب واستراتيجية"، فيتبنى مفهومًا أكثر شمولية للأمن معرفاً إياه بأنه الدفاع عن وجود الدولة واستقلالها وكمالها الإقليمي والدفاع عن حياة مواطنيها وعن طبيعة نظام الحكم فيها وعن أمنها الداخلي والأمن اليومي على حدودها وعن أيديولوجيتها وعن ميزانها الديموغرافي وعن مكانتها في العالم. وأما شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط" فيقول إن موضوع الأمن لا يمكن اعتباره قابلاً للنقاش أمام رئيس أي حكومة إسرائيلية، "بصفته موضوع حياة أو موت بالنسبة إلينا جميعًا". وتستند إسرائيل على مبادئ ثابتة لأمنها، أبرزها التفوق العسكري في الإقليم، فلا تسمح لأي دولة أن تتفوق عليها عسكريًا، وهذا سبب امتلاكها أكثر من مئة رأس نووي، ومع ذلك تعتبر محاولة إيران امتلاك هذا السلاح بمثابة تهديد مباشر لها. العنصر الثاني أن هناك تهديدًا دائمًا من الدول العربية، والآن مع معاهدات السلام، بات التهديد يتأتى من الفواعل من غير الدول، أي ما يماثل حزب الله وحماس والجهاد والمقاومة الفلسطينية.
باعتبارها تتبنى مقولة "نكون أو لا نكون"، فإنَّ الأمن لدى إسرائيل مسألة وجود أو قل مسألة حياة أو موت، وهذا ينطبق على حروبها مع غزة، فالمسألة ليست بعدد القتلى، لأنَّ قتل مواطن إسرائيلي واحد يعد بمثابة تهديد ومساس مباشر لأمنها، وهو ما قد يدفع بها نحو توجيه ضربات عسكرية كثيفة لغزة، وهذا ما ينبغي أن يُدرك. فأمن إسرائيل لا يحتمل قتل عدد كبير من مواطنيها، وينطبق هذا القول أيضًا على الأسرى من جنودها، حتى لو اقتصر عملية الأسر على جندي واحد فقط. لهذا تلجأ إلى مبدأ الضربة الاستباقية، ما يبرر لها الحرب في أي وقت.
الجديد في علاقة غزة بنظرية الأمن الإسرائيلية أن الحرب الحالية، والتي جاءت نتيجة عملية "طوفان الأقصى"، كشفت كثيرًا من نقاط الضعف والإخفاقات لدى إسرائيل، وأسفرت عن سقوط قتلى إسرائيليين، وهو ما لم تعتد عليه إسرائيل في حروبها، وقدرة المقاومة على انتزاع ورقة "من يوقف الحرب أولًا" متى وكيفما شاءت، وسقوط فرضية الردع والضربة الاستباقية، وأيضًا تراجع مكانة إسرائيل دوليًا وبداية سيل من الانتقادات لها، ما شكل بداية اختلاف عن حروبها العربية السابقة. وعليه، أعتقد أن هذه الحرب ستفضي إلى مراجعة كثير من فرضيات الأمن القومي الإسرائيلي، وستبقى غزة تشكل أحد أهم معضلات الأمن الإسرائيلي. ويبقى البديل بقيام الدولة الفلسطينية وحل مشكلة الأمن والاستقرار.