من الخطأ الفادح: أن يأتي (مثلاً) سباك ليقيّم جراح قلب عالمي كمجدي يعقوب، بحكم أن السباك يعتقد أن سباكة مواسير الصرف الصحي تشبه قسطرة شرايين الفلب.
أو أن يأتي عازف ربابة وينفي عبقرية موزارت وبيتهوفن.
ثم نصدق السباك وعازف الربابة.
والخطأ الأكبر: حين نحكم بجهل على الإبداع بناء على الموقف الشخصي من المبدع.
فالجاهل لا يفرق بين الفكرة والشخص،
ولا بين القصيدة الخلاقة وقائلها الذي لا يعجبه شكله أو موقفه.
والمؤلم حقاً: لو يُرغمُ ذائقتنا أحد ما، كي تتأفف من تذوق بوح عذب يقول:
بعض النساء وجوههن جميلة
وتصير أجمل عندما يبكين
تلك الدموع الهاميات أحبها
وأحب خلف سقوطها تشرين.
لأنه يرى أن هذه اللوحة الأدبية الشعرية الراقية: مجرد صورة قبيحة لاشعورية لمشاعر رقيقة يجب أن تكون أصابع باعثها أكثر خشونة في التعبير عن الجمال.
وكأنه يتمنى أن يكتب الشاعر قصيدته بسكين بدلاً من القلم، وأن يرسم الفنان لوحته بمسدس رصاص بدلاً من فرشاة الرسم التي تتمايل بين أصابعه كفراشة فوق ميسم زهرة.
صحيح أن لكل (لاشعور) الحرية في رسمه وكتابته وحكمه، وأن البوح بمختلف ابداعاته وخرافاته ليس إلا انعكاساً لذلك اللاشعور الذي يطفو فوق لسان وحروف الناس دون وعي منهم. وهذا يدعونا إلى أن نتعمق في اللاوعي للفرد أو الواقع كي نتعرف على حقيقة الانفعالات ونتمكن من معالجتها لنعيد للوعي يقظته وللشعور صحته فنخلق واقعاً أكثر تطوراً وجمالاً.
والأكثر إيلاماً، أن يحاول اقناعي من لا يتذوق الشعر الفاخر وربما لا يعرفه، بأن شاعراً له وجدان من ورود وزهور وعطر.. ليس بشاعر، حتى وهو يقول:
فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً
فالصمت في حرم الجمال جمالُ
كلماتنا في الحب تقتل حبنا
ان الحروف تموت حين تقالُ!
ربما، أن كلمة (حب) تعني الرذيلة في ثقافة البعض فيتم الحكم على قائلها باللعن.
أما أن يكون الحكم نابعاً من الموقف، فذلك الجهل في أردأ صوره.
وإلا لكان للناس حكم سلبي ضد عبقرية كل من فرويد، ونيوتن، وانشتاين، وسبينوزا.. وكل العباقرة في مختلف ابداعاتهم، بحكم المواقف من قومياتهم وعقائدهم!
ومن المعيب، أن تتكرر الإساءات لإبداع المبدعين ويعيد التاريخ نفسه، ونمنع الأجيال أن تقرأ فكراً منيراً بسبب رأي لايفرق بين الابداع والموقف من المبدع، أو نحرمهم الاستماع الى صوت عذب يرتقي بذائقتهم السمعية وهو يردد عذب الكلام في حنجرة ذهبية، فنجبرهم على اتباع فكر (أبو الجماجم) والسماع لكل صوت يغرس العقد في نفسية المتذوق ويرسخ فيها كراهية شم العطور الباريسية والنزعة لزراعة حقول من الشوك بدلاً من زراعة حقول الورود الجميلة.
ولنرسخ فكرة ميخائيل نعيمة في فكر الأجيال الجديدة حين قال (فلنلعن الشر في الشرير ولا نلعن الشرير ذاته).
هذا لو افترضنا أن مبدعاً في نظر شخص ما، شرير!
لكن شراً في مبدع حسب وجهة نظر شخص ما، لا يجيز إنكار إبداع المبدع.
ولتكن المواقف ضد رأي المبدع وليس ضد ابداعه. وإذا كان لدى المبدع فكرة تستحق النقد فلننقد الفكرة وليس الشخص. وليكن نقدنا نابعاً من علم ودراية ومنطق، وليس من نعرة عاطفية أو طائفية.
وحين نُعلِّم الأجيال تلك الفلسفة الراقية الواثقة من نفسها، سنصنع أجيالاً تعشق الحياة، وتتعالى على أخطاء من يسيء لنا، دون أن ننكر إبداعه الذي تكون فائدته لنا أكبر مما تكون للمبدع ذاته.
وعندما يكون فكر وأدب وعلم وابداع المبدع في متناول الناس، فإنه لم يعد ملكاً للمبدع وحده، بقدر ما أصبح ملكاً للجميع تتفاخر به ولكن تحت اسم ذلك المبدع حفظاً لحقه الابداعي الذي يستحق التخليد.
ألم يتفاخر العرب والمسلمون بإبداع إبن سيناء وابن الهيثم والفارابي وابن رشد أمام الغرب حين يتهمهم الغرب بالتخلف، رغم اتخاذ البعض من العرب مواقفاً ضد الفكر ذاته؟!
كدليل أن ابداع أولئك المبدعين قد أصبح ملكاً للأمة، ويتم الاعتراف به واستحضاره أمام ادعاء تفوق الغرب وغروره.
وهل كان لشعر أبو نواس أن يبقى كأحد معطيات التراث الشعري العربي المبدع لو تم الحكم عليه من خلال نشازه السلوكي الماجن؟!
وهذا يدفعنا بيقين، أن نفرق أيضاً بين سلوك المبدع وابداعه. فلو حكم على كل مبدع من خلال سلوكه لما بقي على وجه الأرض ابداعاً يقرأؤه الناس على وجه الأرض ولا مبدعاً يستحق الإشادة بعقله.
حيث الإبداع نتاج عقل، والسلوك نتاج تربية وثقافة وظروف، وما ينتجه العقل هو ملك للناس في كل مكان، أما ما ينتجه السلوك فملك للشخص نفسه، أكان مبدعاً أو غير ذلك.
ألم يترجم العرب كل ابداعات الشعر والفلسفة العالمية دون الرجوع الى أصل خلفية المبدعين وسلوكهم ؟!
ولا ننسى أن سلوكاً سلبياً لفرد ما أو لمجتمع في واقع معين يعتبر سلوكاً ايجابياً في واقع آخر، لكن الابداع هو الابداع عند كل المجتمعات مهما اختلفت في معايير السلوك والقيم، وهذا يبرهن حقيقة إن الابداع يجب أن يكون خارج كل نسق وسلوك وحكم!