سياسات شوفينية مقيتة مورست خلال العقود الماضية من قبل الأنظمة الحاكمة في العراق كادت في بعض الأحيان أن تقضي على روح الأخوة والتعايش التأريخي بين أكبر قوميتين في البلد (العرب والكرد). فلطالما إنتهجت تلك الأنظمة سياسات عنصرية حاقدة لمحو الهوية الكردية حتى وصل الأمر بالنظام السابق إلى ممارسة أبشع أنواع الجرائم الإنسانية ضد السكان الكرد متمثلا بعمليات الأنفال والقصف الكيمياوي لمدينة حلبجة ومناطق كردستان الأخرى.
وكان الأمل معقودا بعد الخلاص من الدكتاتورية الصدامية أن تشهد العلاقات الكردية العربية عقدا سياسيا جديدا في ظل الدستور يتماشى مع تطلعات الشعبين لبناء عراق جديد يسوده السلام والتآلف الوطني من أجل ضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة. ولكن للأسف كانت هناك قوى سياسية متعصبة (عربية وكردية) حاولت مرة أخرى ببث روح العداوة بين الشعبين من خلال استعادة نفس النظرة الشوفينية في التعامل الصلف والمتعالي والذي أثبت فشله خلال سنوات طويلة من حكم العراق.
لقد كان الزعيم الراحل مام جلال أول رئيس كردي منتخب في تاريخ العراق، وكان بشهادة العدو والصديق أنه الأكثر تمسكا من كل السياسيين العراقيين بوحدة المصير المشترك وبروح الأخوة والتعايش بين شعبه الكردي وإخوانه العرب. ولذلك وصفه العراقيون بأنه كان (صمام أمان العراق). ولا نغفل الإشارة هنا إلى أنه كان أول من بادر في نهاية تسعينيات القرن الماضي وهو يناضل في صفوف المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين إلى تنظيم أول مؤتمر للحوار العربي الكردي في العاصمة المصرية القاهرة إنطلاقا من فلسفته السياسية الداعية إلى ضرورة تقارب الشعبين وتلاحمهم من أجل النضال المشترك ضد الدكتاتورية والإستبداد والقمع العنصري.
لقد أمضى الرئيس الحالي الدكتور عبداللطيف جمال رشيد شطرا كبيرا من حياته السياسية كمساعد مقرب من الراحل مام جلال، بل كان ذراعه الأيمن في إدارة العلاقات الكردية العربية، ولهذا توسم فيه المقدرة والكفاءة لكي ينوب عنه في تمثيل حزبه ضمن قيادة المؤتمر الوطني العراقي الموحد الذي أنشيء في كردستان العراق عام 1993 بهدف اسقاط النظام الصدامي. وكان من الطبيعي أن ينتهج الرئيس رشيد نفس سياسة الحوار الوطني بين الشعبين حين تسلم منصبه كرئيس للجمهورية، ولذلك جاءت مبادرته بإنشاء أول مركز ثقافي عربي كردي في مدينة السليمانية قبل أيام ليدشن من خلالها مرحلة جديدة من العلائق الأخوية بين الشعبين بعد فترة طويلة من الشد والجذب ومن الصراع والتناحر بين القوى السياسية العراقية.
يعد هذا المركز الذي يوليه الرئيس رشيد جل إهتمامه وحرصه بمثابة خيمة واسعة تضم جميع المثقفين العراقيين عربا وكردا ويجمعهم على كلمة واحدة بإتجاه إستنهاض روح الإبداع الفكري والثقافي والفني للمثقفين العراقيين من خلال تبادل الخبرات والزيارات الميدانية وتنظيم الفعاليات الثقافية المشتركة. ولعل ما يبعث على السرور هو أن هذه المبادرة سوف تتسع لتشمل مثقفي جميع المحافظات العراقية مستقبلا، والأهم من ذلك أن هناك سعيا من فخامته لتوسيع هذه المبادرة بما يشمل جهود إعادة إحياء الحوار العربي-الكردي على مستوى الوطن العربي وذلك إستكمالا لمبادرة الزعيم الراحل مام جلال في تسعينيات القرن الماضي. ويأمل الرئيس أن يتحول هذا الحوار الثقافي إلى حوار عقلاني مستدام بين الشعبين العربي والكردي بما يعزز العلاقات الأخوية والنضال المشترك.
مما لاشك فيه أن الحركة الثقافية في عراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين شهدت للأسف تراجعا ملحوظا إلى حد ما، وقد يكون السبب في ذلك هو ما عاناه العراق من هجمات إرهابية من قبل التنظيمات المتطرفة مثل القاعدة ثم داعش، أضف إليها إحتدام الصراع السياسي بين القوى العراقية المختلفة، والأهم من ذلك، غرق البلاد في الفساد وهدر الأموال والتخطيط الفاشل لمشاريع البناء والتنمية، ولكن هناك اليوم نهضة حقيقية تحاول الحكومة العراقية من خلالها معالجة مشاكل البلاد المزمنة عبر السعي لمحاربة الفساد وإستعادة الأموال المنهوبة، والتخطيط لمشاريع إقتصادية رائدة مع الإلتفات إلى الحالة المعيشية ومحاولة تحسينها وهذا مما يساعد بالتأكيد على إستعادة الحركة الثقافية لعافيتها من خلال توجيه موارد الدولة نحو مشاريع ثقافية ودعم الحركة الإبداعية، ولعل مبادرة الرئيس عبداللطيف رشيد هي جزء مكمل لإستنهاض الحالة الثقافية وبعث الروح فيها مجددا، لاسيما وأن فخامته يولي إهتماما كبيرا بإنجاح هذه المبادرة الكريمة التي لقيت ترحيبا حارا من قبل معالي وزير الثقافة ومن جموع كبيرة من المثقفين العراقيين الذين كان لهم حضور مميز في حفل إفتتاح المركز بمدينة السليمانية.