يحلو للصائم في هذا الشهر الكريم أن يحلّق في فضاء واسع من الذكريات، ثم يحاول ربطها بواقع ما نعيشه هذه الأيام من حراكٍ شامل أملى على كل مواطن حتى من ترك الخدمة المدنية ان يتابعه ويساهم في اثرائه ما أمكن.
وهذه المقاله تنطلق من هذا الإطار، فأرجو ان يتناولها القارئ من هذا المفهوم.
في أواخر عام ١٩٦٢م وصلت مدينة القاهرة للدراسة. وخلال الاسبوع الأول تعرّفت على شابٍ مصري في سني، نشأت بيننا صداقة استمرت طيلة وجودي هناك.
كان اسمه احمد حمدان يعمل في سينما راديو في شارع طلعت حرب. كانت وظيفته الاساسية ان يشغّل الفيلم لجمهور السينما، فكنت أزوره احيانًا في غرفة العرض.
وأذكر مرة في عام ١٩٦٣ أن دخل علينا رجل ربع القامة فاتح اللون هندامه يدل على مستوى طبقي واضح. كان مصحوبًا بنفر من إدارة السينما، كان يحدثهم وكأنه في جولة تفقدية.
وعندما خرج سألت صديقي، فقال لي أنه المخرج الكبير يوسف شاهين جاء ليطمئن من إدارة السينما على أن كل الترتيبات تسير على مايرام تمهيدًا لبدء عرض فيلمه "الناصر صلاح الدين".
عرفت بعد ذلك ان هذا المخرج مصري ولد في الاسكندرية من أب أصله لبناني وأم من أصل يوناني، وانه درس الإخراج في كاليفورنيا، وأخرج عدة أفلام شارك معظمها في مهرجانات عالمية خارج مصر.
عُرِضَ الفيلم بعد ذلك وصاحبته ضجة كبيرة من النقد مدحاً وقدحاً. منها ما طفحت به صحف القاهرة الثلاث، ومنها ندوات نظمتها عدة جهات، بينها واحدة في الكلية التي كنت أدرس فيها بجامعة القاهرة، استضفنا فيها عدداً من المتخصصين من بينهم استاذ التاريخ في كلية الآداب.
استقطب الفيلم معظم الفنانين المصريين اللامعين في عقد الستينيات وقام بدور البطولة أحمد مظهر وحمدي غيث. وشارك في إعداد القصة عدد من الشخصيات البارزة في ذلك الوقت منهم نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي وعز الدين ذو الفقار.
ودارت الايام، تخرّجت من الجامعة، وعدت الى عملي في وزارة البترول بالرياض وتنقلت في الوزارة من مهمة الى اخرى.
وفي عام ٢٠٠٥ وانا في مكتبي في صندوق أوبك للتنميه الدوليه OFID في فيينا، اي بعد اكثر من اربعين عاما، هاتفني سعادة السفير المصري في فيينا رمزي عز الدين يدعوني لحفل عشاء على شرف المخرج يوسف شاهين والفنانة يسرا اللذان وصلا فيينا في رحلة عمل. فذهبت وأنا استعيد ذكرى ذلك اليوم في سينما راديو.
قدمني له السفير رمزي، وعلى مائدة العشاء لم يكن من معنا على نفس الطاولة من السفراء من يعرفه او من يحفل باخبار السينما المصرية. فانتهزتها فرصة قلت للمخرج الكبير اننا التقينا قبل هذه الأمسيه!! اشرأب عنقه وقال بكل اهتمام: ازاي؟؟ فقصصت عليه لقائي به في سينما راديو، فسألني:
على كده لازم تكون حضرتك شفت الفيلم؟
قلت له نعم. ففرح وسألني ايه رأيك؟ قلت له
رائع، ككل أعمالك التي توالت بعده، لكن لدي بعض الملاحظات. فقال وهو يرفع رأسه عن الطبق: زي ايه؟ قلت له: جميل ان يكون الحوار بالفصحى لكن بعض الممثلين لم يتدربوا عليها، ترك مابيده وابتسم وقال بلهجة مصرية صافية: تقصد ناديه لطفي؟ قلت نعم وغيرها.
قال هه وغيره؟ قلت الممثل الكبير حمدي غيث أدّى دوره وكأنه على خشبة المسرح، وأنت تعلم ان لغة السينما تختلف عن لغة ونبرة المسرح. قال معك حق، لكن لم نجد أفضل منه لتقمص الدور. ثم قال وإيه كمان؟ قلت في الفيلم خطأ تاريخي!! كيف تجعلون صلاح الدين يلتقي بريتشارد، وهما لم يلتقيا؟ قال والغضب واضح على محياه "لا اتقابلوا وانت ايش عرّفك!!" ثم اعتذر بعد ان علم مني انني انقل ماسمعته من النقاد ومنهم استاذ مادة التاريخ في كلية الآداب. ثم دخلنا في نقاش حول الفرق بين الشخصية التاريخية والشخصية الفولكلورية التي يستطيع المخرج ان يطوعها كما يشاء.
بعد هذا، تحول النقاش بين الضيوف الى وباء انتشر في صناعة السينما والمسرح، وهو الخروج عن النص، سواء كان من المخرج أو من الممثل. وفي هذه الحالة يصبح نوعًا من التهريج، كما يفعل كل من عادل إمام وسعيد صالح.
أقفل احد السفراء هذا النقاش بقوله: ان مشكلة العالم العربي كله هي الخروج عن النص وهو موضوع آخر.
هذا الاستطراد ونحن في الشهر الكريم، أعاده للذاكرة برنامجاً في قناة MBC احسن صنعًا من فكّر فيه، وهو حكاية وعد.
شاهدت الحلقة التاسعة منه، وهي عن اكتتاب أرامكو. هذه الحلقه بالذات أعادتني الى التفكير في بعض القضايا التي نواجهها في حياتنا اليومية. وقد تكون قضايا مصيرية كتلك التي تسابق عدد من الامراء والوزراء في شرحها، وهم من شهد مولد الفكرة.
تحدث الجميع عن التفكير من خارج الصندوق وانه الوسيلة الفعالة لإخراج فرق العمل من منطقة الراحه Comfort Zone التي ألفوها منذ عشرات السنين. وواضح أن ارامكو أفضل مثل على ذلك. وقد نضيف الى ذلك صندوق الإستثمارات العامة.
إذن التفكير من خارج الصندوق مع بقاء النص ( الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي)هو المناخ الذي يولد فيه الابتكار. وهو الذي يُخرِج الناس من منطقة راحتهم لكي يشاركوا في التفكير والتدبير نحو تحقيق أهداف الرؤيه التي نقترب من ذكرى انطلاقتها السابعة.
من مساهمات الوزراء ومن شارك في الحلقة التاسعة نعرف الطريق الذي رسمه قائد مسيرتنا. وهو التفكير من خارج الصندوق لحماية النص دون الخروج عليه.
سليمان الحربش
*مدير عام صندوق اوبك OFID في فيينا_(سابقا)