نزفت عروق الديموقراطية في الكويت بعد تزوير انتخابات 1967 وبعد حلّ مجلس الأمة حلا غير دستورياً في عامي 1976 و1986، ولكن لم يتوقف نبضها بفضل وحدة الإرادة الشعبية في مواجهة التحديات السياسية التزاماً بالعقد الدستوري بين الشعب والنظام الحاكم.
كان النزيف الديمقراطي الكويتي الأول في العام 1967.. نزيفاً دموياً وطنياً وثقته ذاكرة الشعب الكويتي، واستمر النضال الشعبي والصمود الوطني حتى تجذرت قواعد العقد السياسي والاجتماعي، التي رسمها دستور الدولة في العام 1962، وهي حقيقة لا ينكرها التاريخ.
عانق الشعب الكويتي عبر التاريخ النظام الديمقراطي الدستوري حتى في شهور الاحتلال العراقي دفاعاً عن الوطن وشرعية النظام، فقد كان خفقان الديموقراطية في كل بيت درعاً واقياً امام قسوة التحديات.. خفقان وطني لم يتوقف منذ الإمارة حتى الكويت الحديثة.
ولم يكن أمام سلطة القرار بعد تزوير الانتخابات النيابية في العام 1967، وما تبع ذلك من حلول غير دستورية سوى الاستجابة للإرادة الشعبية التي تميزت بالتماسك بمختلف فئاتها وتكوينها الاجتماعي، ولكن الوضع الحالي مختلف تماما عن الماضي القريب والبعيد.
فقد تعمق التشرذم بين القوى السياسية المُتحررة دينياً وقبلياً وطائفياً حتى بلغ مداه بكافة اشكاله ومستوياته، ولكن لا ينبغي تفسير الوضع السياسي العام والخاص بتلك القوى على انها نقطة ضعف وطنية، وأي قراءة على خلاف ذلك لن تكون بمصلحة الكويت.
لا داعي لتحليل الوضع الحالي للقوى السياسية ومقارنة التاريخ ونجاحاته وانجازاته مع الحاضر وتحدياته واخفاقاته، وإنما الأهم والمهم هو التركيز على مصادر النزيف الديمقراطي الحالي في السلطة التشريعية، مجلس الأمة، وتحديد علاقة السلطة ودوائرها الرسمية بالنزيف الديموقراطي الكويتي الجديد.
لقد اختلفت مصادر النزيف الديمقراطي قبل نحو السنوات العشر الماضية وتحديدا منذ العام 2013 وحتى العام 2022، حين فرضت نفسها تحالفات حكومية غير مبررة سياسياً مع قوى متنفذة، وبروز انتهاكات دستورية صارخة بمباركة أغلبية نيابية تلبية لرغبة حكومية غير مشروعة أساساً.
بلا شك أن أبرز الانتهاكات الدستورية تكمن في تبني رئيس مجلس الأمة 2020 مرزوق الغانم التصويت على تأجيل الاستجوابات الدستورية المستحقة و"المزمع" منها، بناء على طلب رئيس الحكومة السابق الشيخ صباح الخالد وهو ابتداع غير مسبوق تاريخياً ودستورياً.
دخلت الكويت مؤخراً فصلاً جديداً من الاحتقان الشعبي والفزع على المستقبل السياسي بعد صدمة "دستورية" بإبطال مجلس الأمة 2022 والانتخابات التي جرت وفقاً لمرسوم حل مجلس 2020، وهو انذار مبكر بأزمة سياسية شديدة من الصعب التنبؤ بتداعياتها على المدى القريب والبعيد أيضاً.
اليوم، تواجه الكويت فوضى سياسية وقانونية لا داعي لمناقشة تفاصيلها الدقيقة، فقرار الحسم تملكه وحدها السلطة التنفيذية لتحديد مدى سلامة إجراءات وأدوات الانتخابات الماضية التي سبقها الخطاب السامي حول قرار حل مجلس أمة 2020.
صاحب الجدل القانوني والسياسي العميق حكم المحكمة الدستورية ببطلان مجلس أمة 2022، في حين لم يصدر صوتا رسمياً حول طبيعة الموقف السياسي من حكم المحكمة، الذي جانبه الصواب برأي أصحاب الاختصاص القانوني، وهو أمر لا يثير الاستغراب في ظل تاريخ للضبابية الحكومية وعمق الاضطراب في القرارات التنفيذية.
ولابد من استحضار الخلافات بين أجنحة الاسرة الحاكمة التي باتت أكثر عمقاً من قبل ولا يمكن تجاوزها كما كانت سابقاً، فالتجاذب بين تلك الأطراف والانجراف وراء نفوذ نيابي مرفوض شعبياً لن يكون نتيجته سوى استفحال الغيبوبة السياسية في الكويت.
ليس المطلوب عملية انتحارية لانتشال الكويت من النزيف الديمقراطي الجديد والفوضى السياسية غير الطارئة، وانما المطلوب عملية جراحية عاجلة ضمن دائرة صناعة القرار السياسي بعيداً عن المكابرة والإقصاء على حساب الوطن، فليس ثمة ذنب للشعب لما بلغناه من فوضى.
يتوهم من يقول ان التنمية تعطلت بسبب النظام الديمقراطي في الكويت، فالتنمية المستدامة تستوجب الإصلاح السياسي الشامل في الدولة دون تسويف بالقرار وتهاون بالوضع الحالي للدولة عموماً والمصلحة الوطنية خاصة، فالحلول المؤقتة لابد لها أن تلفظ أنفاسها كنهاية سياسية حتمية.
إن السبب الرئيسي والاساسي في التخلف عن الركب التنموي بشتى الميادين وعلى مختلف المستويات يكمن في غياب التخطيط الاستراتيجي الحكومي والقراءة السياسية الحصيفة للوضع العام بعيداً عن التحالفات الانتقائية والمرحلية تحقيقاً لشراكة حقيقة مع الشعب في صناعة سياسات وقرارات الحاضر والمستقبل.
لسنا بحاجة لابتكار سياسي ولا جهاز استشاري خارجي.. الكويت بحاجة لتطبيق مواد الدستور وترسيخها قانونياً وتشريعياً ورقابياً، ولعل خير بداية في تدارك الفوضى السياسية الحالية والاعتراف في مكامن الخلل ومصادره للانطلاق نحو مستقبل أمن سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
إن الكويت بحاجة لبصيرة واقعية بعيدة كل البعد عن حسابات ونظرات تقليدية للتطورات السياسية والنزيف الديمقراطي الجديد، فمثل هذا النزيف سيكون له بلا شك ثمناً وطنياً مضاعفاً ويجب عدم تناسي أن النظام الديمقراطي هو الضمان وصمام الأمان للدولة.
*إعلامي كويتي