هناك الکثير من الصفات الملفتة للنظر والتي نتميز بها کشرقيين مسلمين وتکاد أن تمنحنا خصوصية تميزنا عن الأمم الاخرى، لکن واحد من أهم تلك الصفات هي صفة العناد والمکابرة، إذ إننا ومن أجل التمسك بآرائنا ومواقفنا حتى وإن کنا في بعض الاحيان غير واثقين منها، مستعدون لدخول نقاش وجدال طويل لا أول له ولا آخر وأن نقدم عشرات الادلة والذرائع "الهشة وحتى المفتعلة"، ولکن من دون أن نذعن للحقيقة والامر الواقع.
بقدر ما نحن نتفاخر بتأريخ آبائنا وأجدادنا وهنا لا أقصد فقط فترة الفتوحات العربية ـ الاسلامية وما قد نجم وتداعى عنها، بل أقصد أيضا الحضارات القديمة في وادي الرافدين وفي وادي النيل وغيرها في بلدان المنطقة حيث نقدم ألف حجة وحجة على إننا أصحاب الخطوات الاولى في التأسيس للحضارة على کوکب الارض، فإننا نبحث عن ألف حجة وحجة لتبرير تخلفنا وتراجع دورنا الحضاري في العصر الحديث وحتى إننا من فرط عنادنا وتکابرنا نربط بين تخلفنا وبين نظرية المٶامرة وحتى إن البعض من ذوي العقول المتحجرة زعموا بأن الاوربيين قد إکتشفوا الاسرار العلمية في القرآن وعلى أساسها حققوا تقدمهم العلمي والحضاري!!
المشکلة إننا وفي البحث عن أسباب تخلفنا الحضاري نجوب الآفاق کلها وننبش في کل ما هب ودب لکننا نتحاشى وبکل الطرق والاساليب في الغوص في أعماق أنفسنا والبحث عن العلة التي تکمن فينا في داخلنا وليس في الواقع الموضوعي الذي نجوبه عرضا وطولا منذ سقوط الدولة العثمانية ولحد الان عبثا ومن دون طائل!
البيضة کانت في البداية أم الدجاجة! هذا هو حال واقعنا الفکري والحضاري في الشرق الاسلامي (وأقول الاسلامي تمييزا عن اليهود والبوذيين والهندوس)، لأن واقعنا بمختلف مناحيه لا يزال يخضع للعامل الديني وخضوعه هذا ليس خضوع إيجابي من حيث التعامل بين النص الديني وبين تطورات الواقع والتغييرات الجارية عليه إذ يجري السعي لإخضاع الواقع للنص الديني بکل الطرق والاساليب وليس العکس، وحتى إن التفسير الموضوعي للقرآن والذي جاء من أجل الدفع بعملية التعامل والتفاعل بين النص الديني وبين الواقع المعروض عليه، لايزال أسير عملية تبرير إخضاع الواقع للنص.
بإستثناء ما تقوم به رابطة العالم الاسلامي وجهود أمينها العام الدکتور محمد العيسى من محاولات جادة من أجل إحداث تغيير في مسار التعامل الموضوعي مع النص الديني وعلاقته بالواقع وعدم جعل أي منهما أسيرا للآخر، وحتى إن وثيقة مکة يمکن إعتبارها نقلة نوعية في تعامل وتعاطي النص الديني مع الواقع بعيدا عن التحجر والتقوقع، فإنه لا يوجد من تحرك وسعي فعال ومٶثر آخر بهذا السياق، وقطعا فإن هذا المسار ينتظر تطويره وإغنائه أکثر خصوصا وإننا أمام عالم يتطور بسرعة أکبر للأمام ليس في المجالات العلمية والصناعية والزراعية فقط بل وحتى في الجانب الفکري أيضا وإننا عندما نجد إن الفترة التي کتب فيها فوکوياما کتابه "نهاية التأريخ"، الذي يتحدث فيه عن صراع الحضارات والفترة التي کتب فيها کتاب "نهاية الانسان" التي يتحدث فيها على نهاية الانسان وهزيمته أمام العلم والآلة، فإننا نجدها فترة قصيرة جدا نسبيا لهکذا تطور بالغ الخطورة والحساسية، مع ملاحظة إن فوکوياما قد تمکن من أن يجمع بين العلم والفکر يجعلهما في بوتقة واحدة کما إن فوکوياما يضع البشرية والحضارة الانسانية کلها أمام المسٶولية بوصول الانسان الى هکذا مرحلة خطيرة تجعله فريسة أمام العلم بعد أن کان صيادا لها!
لم يحدث هذا التطور الفکري في الغرب فجأة بل کانت له مقدمات مع ملاحظة إنه "أي التطور الفکري" يسعى جاهدا للحاق بالتطور العلمي ومسايرته، وهذا ما نجده في کتاب "سقوط الحضارة" لکولن ولسن حيث إنه يسعى لجعل الانسان مشترکا في مشاکل الوجود وليس مجرد متطلع أو تابع سلبي، بل وإن ولسن عندما يبصق على الحضارة الغربية فإنه يقوم بذلك لأن دور الانسان ومکانته کمشارك إيجابي فيها لا يزال دون الطموح.
وأنا أفکر بالواقع الفکري والحضاري للشرق العربي الاسلامي، فقد وجدت الإجابة فيما ورد من حکاية قصيرة في سلسلة "شرح النهج" لأبن أبي الحديد المعتزلي، والتي قد لاتعجب البعض إذ يروي: سألوا إعرابيا بعد أربعين عاما من مقتل والده، ألم يحن الوقت لکي تأخذ بثأرك، فأجاب بکل برود؛ لازلت أفکر في ذلك!