كم آلمني تعبُها، وكسرني حزنُها، وأرهقني خوفُها، وأدهشتني تضحياتُها، فقد كانت أمي، رحمها الله، ملهمةً لحياتي الشخصية في تحمُّل المصائب والأزمات والمشاق، وتعلُّم الحب والصبر والنجاح والأمل، حيث عشتُ معها صدمات الماضي القوية، وشهدتُ زمن العسر واليسر، ووثَّقتُ في داخلي سيرتها المعطرة بالحنان والتضحيات، وانتصرتُ لها في الكثير من المواقف مع أبي وأخوتي. والمعري يقول: "الأم أولى بإكرام وإحسان".
تعلَّمت في مدرستي منذ نعومة أظفاري الحروف والتهجّي، ورأيت بأم عيني قسوة المعلم وهو يمسك بالعصا ليعاقب بها الطالب الكسول أو المشاكس؛ لكنني عندما أعود للبيت أجد مدرسة مُثلى للحياة، فيها: أعجوبة القيم والمبادئ، وعلوُّ الهمة، والدفء والحنان والجمال والأمان، والمحبة والمودة، والرقة والعذوبة.
كنت اشعر بأن هناك نصفًا آخرَ حيًّا من أمي يتحرك في داخلي، وأن هناك جمالاً مثاليًّا ينبع من داخل الروح، ويتزين بعطاء لا ينضب. فترفرف نسائم الأمل، ويفوح عبق الحنان؛ كأنها أرق الألحان وأعذب الأنغام، لا يعزفها إلا قلبها، كما يقول (بيتهوفن).
ربما كانت حياتي مع أمي أعظم كتاب قرأته. واسعد أيامي عندما كنت أناديَها "أمي"! وعندما تُوصَد أبواب الحياة أمامي، أو يضيق صدري بأوجاع الهموم، وأتوه في غياهب أحزاني؛ فقد كانت لي التعزية عند الحزن، والرجاء ساعة اليأس، والقوة وقت الضعف. مثلما كان حضنها واحة للآمان والأمل، وصدق (وليم شكسبير) عندما قال: "ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم".
رغم أن أمي كانت لا تقرأ ولا تكتب؛ فقد كان لديها حدْسٌ عالٍ في قراءة الوجوه، ومعرفة أسرار الحزن والحاجة والمزاج لدى الوالد والأولاد، وإحساسٌ عميق بالحياة ومتطلباتها، خاصة الحياة الزوجية ومسؤولية تربية الأبناء. ولها عشق التضحية ونكران الذات التي لا نراها إلا في الخيال عندما تقول للأبناء: أدعو الله أن يأخذ من عمري ويعطيَكم.
لقد كانت أمي خبيرةً بالعواطف والحنان وكأنها قد قرأت كتبًا في علم النفس وعلم الطفولة فيما يتعلق بلغة الجسد (الأحضان والمواساة)، والاستجابة لأي مشاعر يُظهرها الأبناء. كانت أكبر حكيمة في معرفة الدنيا، لكنها لم تكن فيلسوفة للمعارف النظرية، لكنها علمت الأسرة أنَّ "الطّباخ الماهر هو الذي يعرف تماماً متى يطفئُ النار".
عاشت أمي مع والدي مطيعة لقراراته ورغباته ومزاجه المتغير، كأي أمرأه شرقية تقليدية، ورافقته في تنقلاته من الشمال إلى الجنوب دون أن تشعره بضجر في النفس أو تعب في الجسد، ووقفت معه صامدة ومثابرة إزاء تحديات الوظيفة والطبيعة القاسية وضنك العيش، وتحمَّلت عصبيته الزائدة ونوبات الغضب اللفظي، وكذلك لبَّت له رغباتِه وشهواتِه. فأنشأت من صبرها حقولاً خضراء تَرعرعت فيها سنابل الحكمة ومحبة الأبناء.
كانت أمي أمًّا عاطفية لدرجة المرض؛ مريضة بحب أطفالها حد الجنون، رغم معاناتها القاسية مع مآسي الحياة المتمثلة في صعوبات تربية الأبناء، والتنقُّل المستمر مع أبي بين المحافظات، وكذلك أشغال البيت التقليدية؛ كعمل الخبز في التنُّور الطيني في بيوت السكك، وتلاه التنُّور الغازي في بغداد؛ حيث كانت تجلبنا كقطط مستأنسة إلى حيث مكان التنُّور لنتناول ما تيسَّر لنا من شطائر الخبز الملتهبة، الخارجة للتو من بيت النار. كأننا نتذكر معها قول محمود درويش: "أحن إلى خبز أمي".
كانت حياتنا تسير بهدوء وستر، كما يقولون، ورغم ذلك كانت هناك حادثتان نُقشتا نقشًا في ذاكرتي بقوة ولم تبرحاها: الحرب العراقية الإيرانية، وموت "أمي" الصادم والمفاجئ. وكلٌّ منهما حكايةٌ قاسية انسحبت على حياتي لاحقًا، وأخذتا الكثير من زهرة العمر.
في الحرب عاشت أمي، مثل كل الأمهات العراقيات، على رعب الأخبار المزلزلة، القادمة من جبهات الحرب، وعلى جمرات الخوف من احتمال عودة الأبناء أجسادا بلا أرواح في صناديق الخشب. فالحروب دائما تأكل معظم جنودها؛ وبالطبع لا تُوجد حربٌ رحيمة، ولا حربٌ إنسانية، إنها أسوأ الخيارات كما يعرف مَن عاشها وجرَّبها. وأعترف، بأنها قد حصدت أرواح العراقيين ووأدت أحلامهم في الأمن والسلام والرخاء.
كانت البداية الأولى هي إصابة والدتي بمرض السكري، ثم هاجمها بعد ذلك مرض السرطان اللعين، عندما توقفَتْ أمام بيتنا سيارة تاكسي وعليها تابوت ملفوف بالعلَم العراقي، حيث نزل منها جندي يسأل عن بيت الشهيد. كانت الصدمة والدهشة!، وكان انتظار نطق اسم الشهيد مرعبًا لأمي في تلك اللحظات، وخاصة أن لديها ثلاثة أبناء على الجبهة وقد طالت غيبتهم. لم تسترح إلا عندما نطق الجندي اسمًا آخر وكان لأحد أبناء جيراننا، لكنها رغم ذلك دخلت في غيبوبة؛ ليبدأ مرض السكر بالتشكُّل في جيناتها منذ تلك اللحظات الرهيبة، ثم تمر الأيام وتموت بالمرض الخبيث بين أبنائها.
لا ولن أنسى ذلك اليوم الذي ماتت فيه والدتي، حيث اسودَّت الدنيا في عيوني، وتغيَّرتْ بعدها حياتي وفقدت الكثير من أيام الجميلة، وأصبحتُ لا أنسى تفاصيلها الدقيقة، وأتخيلها في كل وقت وحين؛ بل ترك هذا اليوم بصمة لا يمكن محوُها مهما تعاقبت الأيام والسنون. كان رحيلها مأساويًّا وحزينًا؛ حيث تركت فراغًا كبيرًا في حياتي، وكأنه حفرة عميقة! وصدق (جبران خليل جبران) في قوله: إن الذي يفقد أمه يفقد صدرًا يسند إليه رأسه، ويدًا تباركه، وعينًا تحرسه.
قصة أمي، هي قصة كل الأمهات العراقيات اللائي اكتوين بنار الحروب وفاجعاتها وأحزانها، وبجمرة التهميش والمظالم الاجتماعية والسياسية. لقد أخذت الحروب والفقر وغربة الأبناء من أعمارهن زهو شبابهنّ، وعشنَ مختصرات الفرح ولذة الحياة. ومع ذلك كنّ أنهارًا لا تجف ولا تنضب من الحنان والصبر والطيبة؛ وربما كان هذا هو سر الحب الخالد للأم الذي لا يشيخ ولا ينتهي بمرور الأيام والأزمان.
لقد أخطأوا؛ إذ جعلوا لك يومًا واحدًا للاحتفاء بك، فأنت العمر كله، والحب الثابت. وما علموا أن قلب الأم لا يغيره الزمن لأنها جنة الدنيا والحنان والعطاء؛ أنها الأيام الجميلة في العمر، وبعدها عمر ضنين. حنانها يَقظٌ لا يخبو ولا ينام.
[email protected]