وُلد الفيلسوف الألماني فريدريك شلايرماخر (1768_1834) من عائلة بروتستانتية. تَعَلَّمَ بالمدرسة الإكليريكية للإخوة المورافيين في باربي، وكان شديد الانزعاج من انضباط هذه المدرسة.
درس في جامعة هال في الفترة (1787_1789)، ولَم يُخْفِ انزعاجه وضِيقه من عقلانيتها، وهو ما أدخله في متاهة وحيرة انتهتا به إلى نبذ العقائد الدينية كافة، واعتبار كل تدخل للعقل في مجال الإيمان نوعًا من الانحراف. ومع ذلك، فقد اجتازَ في عام 1790 ببرلين الامتحان اللاهوتي لختام الدراسة، ورُسِم قَسًّا، ثُمَّ عُيِّن واعظًا مُساعدًا (1794)، فمُرشدًا روحيًّا (1796) في مستشفى المحبة ببرلين.
ذاعَ صِيته نتيجة كتابه "خُطَب في الدِّين" (1799) الذي أثار سِجالاً واسعًا، ومُؤاخَذات جَمَّة، تولى شلايرماخر الإجابة عنها في كتابه "مُناجاة النفس" (1800) .
قام بالتعاون مع شليغل، بترجمة آثار أفلاطون، ثُمَّ استكملها بمفرده في الفترة (1804_1810) في خمسة مجلدات. وكان لتقديمه لها أثر فلسفي كبير.
كتب في هذه الفترة كتابه "نقد الأخلاق السابقة" (1803) . وَسُمِّيَ أستاذًا فوق العادة لعلم اللاهوت بجامعة هال، وأقبل على دروسه جمع غفير، إلا أن الجامعة اضْطُرت إلى تعليق دروسه بعد هزيمة إيينا، فعاد إلى برلين، حيث ساهم في تأسيس الجامعة الجديدة، وعمل أول مُدرِّس لعلم اللاهوت بها عام 1810. وانخرطَ في عملية الإصلاح العقلي والأخلاقي.
انتُخِب شلايرماخر عام 1811 عضوًا بأكاديمية العلوم البروسية.
عُرِف عنه محاولته التوفيق بين الانتقادات الموجَّهة إلى التنوير، وبين المسيحية البروتستانتية التقليدية. كما أصبح مُؤثِّرًا في تطوُّر النقد العالي، ويُشكِّل عمله جزءًا أساسيًّا في مجال علم التأويل الحديث. وكان له أثر عميق على الفكر المسيحي في وقت لاحق، وأيضًا له تأثير واسع في المذهب البروتستانتي. يُعتبَر شلايرماخر "أب عِلم اللاهوت الحديث"، وزعيمًا مُبَكِّرًا للمسيحية الليبرالية، وحركة الأرثوذكسية الجديدة في القرن العشرين، والتي في العاده يُنظَر إليها على أنها بقيادة كارل بارت. اعتبر شلايرماخر "أن أساس الوجود اللامتناهي هو الله، حيث تلتقي عنده جميع المتناقضات". وعلى عكس هيغل. فهو لا يَقبل بأن تكون قوانين الجدل كُلِّية، "فالجدل لا يُعبِّر إلا عن وَحدة المعرفة".
يُعتبَر شلايرماخر مِن أبرز العلماء في مجال الهرمنيوطيقا (عِلم التأويل أو التفسيرية)، وهي مدرسة فلسفية تشير إلى تطوُّر دراسة نظريات التفسير، وفن دراسة وفهم النصوص في فقه اللغة واللاهوت والنقد الأدبي. ويُستخدَم مصطلح "هرمنيوطيقا" في الدراسات الدينية للدلالة على دراسة وتفسير النصوص الدينية، وفي الفلسفة، هي المبدأ المثالي الذي من خلاله تكون فيه الحقائق الاجتماعية رموزًا أو نصوصًا، والتي يجب أن يتم تفسيرها بدلاً من وصفها أو إيضاحها.
وقد تَمَّ اشتقاق المصطلح من اسم الإله اليوناني هيرميز، والذي نَسب إليه الإغريق أصل اللغة والكتابة، واعتبروه راعي الاتصال والتفاهم بين البشر.
أمَّا في مجال عِلم اللاهوت، فيمكن تعريف الهرمنيوطيقا بفن تأويل وترجمة "الكتاب المقدَّس"، فالتأويل هو"العلم الديني بالأصالة والذي يُكوِّن لُبَّ فلسفة الدين"، ويقوم عادةً بمهمتين متمايزتين تمامًا هُما: البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدَّس عن طريق النقد التاريخي، وفهم معنى النص عن طريق المبادئ اللغوية.
يَنظر مُعظم مُؤرِّخو الهرمنيوطيقا المُحْدَثُون إلى العمل الذي قدَّمه شلايرماخر على أنه الفعل الذي دفع بالهرمنيوطيقا من دائرة الاستخدام اللاهوتي، ليكون عِلْمًا أو فَنًّا لعملية الفهم وشروطها في مستوى تحليلها للنصوص، ومِن ثَمَّ نقل التأويلية من وضع الاحتكار الوظيفي إلى وضع المشاعية الأداتية، عبر الارتقاء بها إلى درجة علم يُؤسِّس عملية الفهم، وبالتالي عملية التفسير. والهرمنيوطيقا ارتبطت بالشِّعر والرواية، ومن ضوابطها إتقان الحديث عن الآخرين، وحُسن التقديم والمهارة في تأويل نقاط الاتفاق بين سائر الشعراء. ومِن ثَمَّ يكون الهرمنيوطيقي كرَجل اختصاص مُتقِن لحقله المباشر له، وهو ما يختلف به عن الفيلسوف بما هو باحث عن الكُلِّي، وإن كان هذا التحيُّز المعرفي لا يَفصله عن الفيلسوف حال الاتحاد في قيمة الحب، مِن حيث كَوْنها قيمة فنية كُلِّية مُشتركة. مِمَّا يَجعل الهرمنيوطيقي بقواعده مُمَارِسًا لفعله البحثي وَفْق نسق ضابط الاستغراق. وحين يكتسب معرفةً بِفَن بالكُلِّية، يكون بحثه عن الجيِّد والرديء أمرًا واحدًا بِعَينه.
إن تاريخ الهرمنيوطيقا عريق جِدًّا في الثقافات الإنسانية. قد تناسلت مناهجه وأساليبه التي كانت تُركِّز على البحث عن المعنى الأصلي إلى البحث عن أثر النص.
مِن أبرز مؤلفاته : الإيمان المسيحي طِبْقًا لمبادئ الكنيسة الإنجيلية ( 1821_ 1822 ) . الجدل ( 1836 ) . الأخلاق الفلسفية ( 1836) . دروس في علم الجمال ( 1842 ).