: آخر تحديث

غوستاف فلوبير في تونس

60
59
35
مواضيع ذات صلة

بهدف جمع الوثائق اللازمة لكتابة روايته "صالامبو"، زار فلوبير تونس في ربيع عام 1858. ومثلما فعل في رحلته إلى مصر، حرص على تدوين ملاحظاته بدقّة وعناية. وعندما كانت الباخرة القادمة من مدينة عنابة، تقترب من ميناء حلق الوادي، كتب فلوبير يقول: "مدخل حلق الوادي يذكّرني بمصر: مساحات مُنبسطة، جدران بيضاء، واللون الأزرق دائما. وثمة صورة غامضة لرجل أو لبيت ترتسم على المشهد. الجمارك. مراكب. شراعان كبيران. ريح هادئة. اللون الأصفر للبحيرة يذكرني بالنيل". 

من حلق الوادي، مضى فلوبير إلى تونس العاصمة ليقيم في "فندق فرنسا" الكائن في شارع ضيّق. في مدخله، شاهد مجموعة من النساء كنّ يكوين الثياب ويَخطْنها. وكانت الغرفة في الفندق ضيّقة وصغيرة. بعدها التقى بالسيد "كراف" الذي كان قد سافر معه على ظهر الباخرة من عنابة إلى تونس. وخلال تلك السّفرة، اكتشف فلوبير أن صاحبه يحفظ عن ظهر قلب أبياتا شعريّة لفيكتور هوغو، ولفرجيل. معه قام بجولة في أسواق المدينة. وفي أحد الأحياء، توقف الاثنان ليشاهدا ألعابا كان يقوم بها شيخ من "العيساوية". وكان شيخا هزيلا، يرتدي أسمالا بالية. والأسنان التي تبقّت في فمه، جعلته يبدو شبيها ب"حيوان متوحش". أمام الشيخ، كان هناك واحد يضرب على الطبل. وثمّة طفل يرقص، أو بالأحرى "كان يقفز". وكانت الثعابين تتمايل على الأرض مُحرّكة رؤوسها. وكان المتفرّجون وكلّهم من العرب، يرتدون ثيابا رماديّة أو بيضاء. في اليوم التالي، وكان يوم أحد، تجوّل فلوبير في حديقة  "البلفدير" صحبة سيّد يدعى "ديبوا". وعندما صعد المتجوّلان فوق الهضبة العالية، شاهدا البحر، والبحيرة، وسهل وادي "مجردة". وعند المرور بـ "أريانة" التي كانت "جميلة وجذّابة"، كتب فلوبير يقول: "السطوح البيضاء، المنازل ذات النوافذ الخضراء، تبرز وسط الخضرة. وكلّ شيء كانت تكتنفه مع بعض المنافذ، جبال زرقاء، وبساتين زيتون. أشجار خرّوب ضخمة. وأسيجة صبّار حيث كانت الأوراق تشيخ". وفي مقهى، شاهد فلوبير يهودا ويهوديّات. واحدة منهن كانت بغيّا. وكانت تزيّن جفونها باللون الغامق. كما شاهد فلوبير قريبة القنصل البريطاني راكبة صهوة   جواد...".

يوم الثلاثاء 27 نيسان من العام المذكور، زار فلوبير المرسى، وشاهد خيمة الباي. وعلى ظهر حصان تجوّل على الشاطئ. وفي الليل، أمضى السهرة في إحدى المقاهي الراقية. وكانت هناك فرقة موسيقيّة يهوديّة تتكوّن من أعمى كان يعزف على المندولينة، وله أنف طويل. وكان يحرّك رأسه طوال الوقت "كما لو أنه فيل". والذي كان يعزف على الكمان كان "شاحب الوجه". وأمّا الذي كان يضرب على الطبل فقد كان  سمينا. وكان هناك أيضا طفل في حوالي الثانية عشرة من عمره يلبس سترة لها "لون النبيذ الإسباني". وكان هو أيضا يعزف على المندولينة بريشة عصفور. وكانت له شفتان غليظتان، وأسنان طويلة إلى حدّ ما. وعلى سقف المقهى علّقت أقفاص طيور كانت تطلق  زقزقات من حين لآخر "مبتهجة بالموسيقى". وكانت تملأ المقهى رائحة السجائر، والقهوة، والمسك، وصمغ الجاوة... 

يوم الاربعاء، طاف فلوبير في أسواق المدينة، واشترى عطورا، وحزاما جلديّا، وزجاجات صغيرة. وفي الليل، تجول في الشوارع التي غمرها الطين بسبب الأمطار التي تهاطلت بغزارة في ذلك اليوم. ويوم الخميس كتب رسالة إلى والدته، وتجوّل في "القصبة" في الليل، وكان القمر ساطعا، مانحا المآذن والمباني سحرا وفتنة. وكانت المقاهي تعجّ بالناس. منها كانت تتعالى أصوات وموسيقى صاخبة. وكانت السّماء ذات زرقة غامقة، والنجوم كانت بلون الماس. وفي "القصبة" شاهد فلوبير "الكاراكوز"(نوع من المسرح يشبه مسرح الظل الصيني). وكان الناس يتدافعون لمشاهدته وهم يطلقون صيحات عالية. وبصحبة السيد "كراف"، شاهد "كاراكوزا آخر. وكان المقهى مليئا بالمتفرجين. وقد أعجب كثيرا بالموسيقيّين الثلاثة الذين "عزفوا ألحانا بديعة". وبعد أن شاهد "الكاراكوز"، علّق فلوبير قائلا:”يا له من عرض حزين خصوصا لصاحب الذوق، ولمن يمتلك مبادئ". ويوم الجمعة، زار فلوبير قصر الباي غير أنه لم يرق له كثيرا، ولم يجد فيه ما يثير الانتباه. ومن باردو، انتقل إلى منوبة حيث التقى في طريقه إليها بدوا مسلحين بالخناجر. ويوم السبت، فاتح ماي، توجه فلوبير إلى بنزرت مارّا ب"رأس الطابية"، وب"المنيهلة"، وب"السبالة" التي تسمّى اليوم "سبالة بن عمار". وبين وقت وآخر كان يلتقي بدوا مسلحين. عند مرورهم بدوّار، نزل فلوبير وأصحابه من العربات لصيد العقارب. وكان الجبل أجرد، مكسوّا بأشواك صغيرة. وفي ذلك الدوّار، استقبلهم واحد يُدعى عمر بن صميدة، واستضافهم. وقد كتب فلوبير يقول :”دخنّا الغليون خارج الكوخ الذي كان مبنيّا من جلّة البقر المجفّفة. كانت هناك بقرات صغيرة في الساحة ممدّدة على الأرض. وكانت السماء ملبّدة بالغيوم. أثناء الرحلة، أطلقت النيران على الطيور". 

يصف فلوبير بنزرت على النحو التالي:”من الزاوية الغربية للحصن، على ربوة صغيرة في المستوى الأول، جدران المدينة. على اليسار انحناءة الخليج. رمال شقراء. والرمال على هيئة كثبان. خلف ذلك خيوط جبال واطئة. أمامي المدينة، والمضيق الذي يأتي منه الناس، أشقر من الناحية اليسرى، وأخضر من الناحية اليمنى. وهناك بحيرتان، والبحيرة الصغرى هي الأبعد من ناحية المسافة. أما الثانية القريبة فتتواصل على شكل قنال لكي تلتحم بالبحيرة الكبيرة على اليمين. خلف البحيرة الكبيرة، وفي الوسط، جبل عال على هيئة هرم، فيه تعيش جواميس وحشيّة". ويواصل فلوبير الحديث عن بنزرت قائلا :”المدينة جميلة. إنها "فينيسيا الشرقيّة". لكنها نصف مهملة. مياه القنال عمقها ثلاثة أو أربعة أقدام، شديدة الزرقة. منازل مخربة". 

يوم الجمعة حضر فلوبير موكب الباي. عند مدخل القصر، كان هناك رجل ضخم الجثة يرتدي لباسا أحمر، ويمسك بعصا بثلاث سلاسل . وكان يصرخ عاليا. ثم ظهر الباي، وجلس على كرسيّ له شكل هيكل الحوت. خلفه كان هناك سيف ومسدسات، وكان يمسك بمنديل ومنشفة. وكان وجهه "متعبا ورماديّا ويوحي بالغباء”. وكان له جفنان "منتفخان، وعينان مخمورتان". وكان غارقا في النياشين، وفي الزخارف المذهّبة. واحدا بعد الآخر، كان رجال الحاشية يتقدمون منه لتقبيل يده في حين كان هو مُسندا ذراعه إلى وسادة. كلّ واحد منهم كان يقبّل اليد قبلتين. بعد القبلة الأولى، يلمسون أعلى اليد بجباههم. وبعد القبلة الثانية ينصرفون. وأول من يتقدم من الباي الوزراء، ثم الرجال الذين يلفّون رؤوسهم بالعمائم الخضراء، المضلّعة الألوان. وأما الضباط فهم مثيرون للشفقة. لهم مؤخرات كبيرة في سراويل لا شكل لها. أحذيتهم مهترئة، والكتفيات مشدودة بالخيطان. وثمة كمّيات كبيرة من النياشين والزخارف المذهّبة. والآباء البيض هزيلو الأجساد، أغبياء، ويبدون كأنهم منكوبين. وعندما دخل الباي إلى قصره، شرع الرجل ضخم الجثة يصرخ عاليا من جديد... 

زار فلوبير "المحمدية" التي كان  المشير أحمد باي قد بنى فيها قصرا فخما أراده ان يكون شبيها بقصر "فارساي بعد الزيارة التي أداها إلى فرنسا عام 1846 ، إلاّ أنه وجدها مخربة ومُهملة. ولم يكن فيها غير نخلة على الجانب الأيمن من الطريق المؤدية إلى العاصمة. وكانت هناك إبل باركة على الأرض، وخيام سوداء، وكلاب تنبح، وأعشاب شائكة. وفي تبرسق، أمضى فلوبير ليلة غير أنه نام نوما متقطعا بسبب هجمات البعوض. وفي طريقه إلى الكاف، زار تستور، ودقة. وكان يدوّن في دفاتره كل ما كان يرى من بشر وحيوانات ومنازل وطيور وأودية وجبال وهضاب. حتى نقيق الضفادع كان يدوّنه. عند وصوله إلى الكاف القريبة من الحدود مع الجزائر، كتب يقول :”تقع الكاف فوق قمّة جبل. وليس من السهل الوصول إليها بسبب الربى العرضانيّة المائلة التي تبدي بطونها جانبيّا. وعلينا أن نصعد الواحدة منها، ثم ننزل. في الأسفل، الأفق يتبدّى أمامنا مليء بالجبال. وكثير منها له شكل هلال". ومن الكاف انطلق فلوبير إلى سوق اهراس. وفي السادس من شهر يونيو-حزيران 1858 عاد إلى باريس. وكان عليه أن يعمل أربعة أعوام لكي يتمكن من إنهاء "صالامبو". 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات