: آخر تحديث

معبر الطيبة.. سياسة العقاب الجماعي وغياب العدالة

3
3
3

مرَّة أخرى، يُختزل وجود الفلسطينيين في معبر مغلق، وتُحاصر كرامتهم بسياسات أمنية انتقائية. فإغلاق معبر الطيبة أمام المواطنين العرب في إسرائيل، بالتزامن مع إعادة فتح معبر الجلمة قرب جنين، يكشف عن منطق استعلائي يجعل حياة الفلسطيني في الضفة الغربية أسيرة لإرادة الاحتلال.

هذا التباين الصارخ في التعامل مع معبرين متجاورين، في ظل مناخ أمني هش، يثير تساؤلات مشروعة لدى سكان طولكرم حول المعايير الحاكمة لهذه القرارات الحساسة. فهم يرون في هذا الإجراء تمييزًا واضحًا وتغييبًا للعدالة والمنطق، مؤكدين افتقار القرارات لرؤية شاملة ومتسقة.

لا يمكن فهم هذا التمييز إلا في سياق سياسة "فرّق تسد" الإسرائيلية. فإذا كان الهدوء الأمني هو المبرر المعلن، فكيف يُفسر استمرار إغلاق الطيبة رغم انخفاض حدة المواجهات فيها مقارنة بجنين التي شهدت عمليات نوعية؟ والأكثر إيلامًا أن هذا الإغلاق يتزامن مع ازدياد حاجة الفلسطينيين في الداخل والضفة للتواصل، خاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية وتشتت الأسر بفعل جدار الفصل العنصري.

هنا تتجلى الازدواجية الإسرائيلية؛ فبينما تُستخدم "المقاومة المسلحة" ذريعة لحرمان طولكرم من حقوقها الأساسية، يُتغاضى عن عنف المستوطنين الذي يؤجج التوتر يوميًا. أليس الهدوء التزامًا متبادلًا؟ أم أن "الأمن" الإسرائيلي يعني إخضاع الفلسطينيين دون أي مسؤولية عن حمايتهم من اعتداءات المستوطنين؟

إنَّ تحميل المدنيين العزل مسؤولية كبح جماعات مسلحة، في ظل معاناتهم من الاحتلال وتداعياته، هو تنصل من مسؤولية الأجهزة الأمنية والقانونية المكلفة بفرض النظام. بل إنه تجاهل للظروف المعقدة التي تنشئ مثل هذه الجماعات في بيئات يائسة، ومطالبة السكان بدور الشرطي في مناطق تخضع لسيطرة أمنية مشددة.

إقرأ أيضاً: هل تخشى حماس أصوات الجائعين؟

علاوة على ذلك، فإن استمرار إغلاق معبر الطيبة لا يقتصر تأثيره على الجانب الأمني فحسب، بل يمتد ليشمل جوانب حياتية واقتصادية واجتماعية بالغة الأهمية لآلاف الفلسطينيين. فهذا المعبر يمثل شريان حياة للكثيرين الذين يعتمدون عليه في الوصول إلى أماكن عملهم داخل إسرائيل، وفي الحفاظ على الروابط العائلية والاجتماعية مع أقاربهم، وإغلاق هذا المعبر يعني قطع أرزاق وتضييق الخناق على حياة الناس، وهو ما يزيد من معاناتهم ويغذي لديهم شعورًا عميقًا بالظلم والتهميش.

المنطق الذي يقف خلف ربط فتح المعبر بقدرة السكان على كبح الجماعات المسلحة يبدو قاصرًا ومختلًا. فهل يُعقل أن يُعاقب مجتمع بأكمله بسبب أفعال قلة قليلة؟ أليس هذا هو جوهر العقاب الجماعي الذي تدينه المواثيق والأعراف الدولية؟ فالأمن الحقيقي لا يتحقق من خلال سياسات الإغلاق والعزل، بل من خلال بناء الثقة وتعزيز التعاون وتقديم حلول جذرية للمشاكل التي تغذي العنف والتطرف.

إقرأ أيضاً: جنين.. ساحة صراع وحصار إنساني!

إعادة فتح معبر الجلمة، وإن كانت خطوة إيجابية في حد ذاتها، إلا أنها لا تزال غير كافية لتبديد حالة الاستياء والقلق التي تسود طولكرم، فالمطلوب هو رؤية شاملة وعادلة لإدارة المعابر، رؤية توازن بين الاعتبارات الأمنية المشروعة والحقوق الإنسانية والاقتصادية للفلسطينيين. كما يجب أن تستند القرارات المتعلقة بفتح وإغلاق المعابر إلى تقييم دقيق وشفاف للوضع الأمني على الأرض، وأن تخضع لمعايير واضحة وموحدة تطبق على جميع المناطق دون تمييز.

لكن استمرار حالة الضبابية والازدواجية في التعامل مع معبري الطيبة والجلمة لا يخدم سوى تعميق الهوة بين الجانبين، وزيادة الشعور بالمرارة والإحباط لدى الفلسطينيين. فعلى صناع القرار أن يدركوا أن الأمن المستدام لا يتحقق بالعقاب الجماعي وتضييق الخناق على المدنيين، بل من خلال تبني سياسات عادلة ومنصفة تحترم حقوق الإنسان وتعمل على تحقيق الاستقرار والازدهار للجميع. فالمعبر المفتوح والآمن جسر للتواصل، بينما المغلق شاهد على سياسات قاصرة تؤدي إلى مزيد من الانقسام والتوتر.

إقرأ أيضاً: الضفة الغربية: اقتصاد مُنهك بين المقاومة والحصار

وإذا كانت إسرائيل جادة في الحديث عن "الهدوء"، فليكن الهدوء طريقاً ذا اتجاهين: بوقف الاستيطان، وإنهاء الحصار، والاعتراف بحقوق الفلسطينيين. أما أن تظل المعابر أداةً للعقاب والمكافأة، فذلك لن ينتج إلا مزيدًا من الغضب، ومزيدًا من المقاومة. فالشعوب لا تُحكم بالحديد والنار، ولا تُقهر بالإغلاق والحصار.

طولكرم ليست استثناءً، بل تجسيد لمأساة مستمرة، وفتح المعابر ليس منة، بل حق يكفله القانون الدولي. لكن الأهم أن الفلسطينيين، رغم القيود، لم يستسلموا لمعادلة "الخضوع مقابل الفتات"، فالشعوب المحاصرة تخلق من الألم سبلًا جديدة للصمود، ومن المعابر المغلقة دروبًا أخرى للكرامة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.