: آخر تحديث

سفود الجرابيع

2
2
2

إبراهيم بن سعد الحقيل

أبو القمقام الأسدي من صليبة العرب الشُّم الأنوف، الذين ملأوا صحارى الجزيرة العربية ضجيجاً، حتى ضاقت بهم، فوجد في أطرافها الشمالية متنفساً. كيف لا تضيق عليه وهو اختار كنية تدل على السَّعَة، قالوا: القَمْقَام: السَّيِّدُ الواسع الخَيْرَ. والقمقام أيضاً الذي تَجْتمِعُ له أُمُوره، ولا تتفرَّق عليه شؤونه.

فمِن ثَمَّ بدا له وقد جذبته المدينة بزخرفها، وطيب معاشها، أن يجمع أُموره وشؤونه، فيَمَّم وجهه إلى المدينة. كانت البصرة أول بلدة حلَّ بها، لكنه لم يلبث أن ترقَّت به همَّتُه أن يقصد أم الدنيا في ذلك الزمن، كيف لا يقصدها وهو السيد الواسع الخير، المنتمي إلى بني أسيد الصِّيْد، الذين فتكوا بحجر الكندي، وشردوا ابنه امرئ القيس. فانتقل أبو القمقام إلى بغداد، فوجدها أطيب مُقاماً، وأقَصْد معيشة من البصرة، فطاب له المُقام بها، ولم يعبأ بلوم اللُّوام من قومه بني أسد، ففي بغداد انعتق من شظف البادية وعيشها المُصَرَّد.

وجد أبو القمقام في بغداد عيشاً رخيًّا، وسعة رزق مقارنة بالبادية التي قَدِم منها، فطابت له الإقامة حتى لقي ربه. بل تهيأ له خلاف ما في البادية التي قَدِم منها، استراح من الخصومات التي لا تنقطع على موارد الماء، ومواطن الكلأ، التي ينازعه فيها فئام من العرب، منهم من هو داني القرابة وآخر نائيها، فاستراح وأراح، لكنه وقد استراح من القتال وجدَ في بغداد مَن يُذكِّره به، لما يَظُنُّ فيه من شجاعة وحُبٍّ للقتال، فاقترح عليه أن يغزو مع جموع المسلمين الثغر البيزنطي، ولم يعلم هذا الغِرُّ أن أبا القمقام نسي القتال والطِّراد، وأصبح هذا من ماضي أزمانه، وذكرياته البائسة، ردَّ عليه ردًّا فيه من الضِّعة ما يدل على تبرُّمه من مطلبهم، وكأنه نظر إلى قول الشاعر النجدي:

أأنْصُرُ أهْلَ الشَّامِ ممَّنْ يَكِيْدُهُمْ

وأهْلِي بنَجْدٍ ذَاكَ حِرْصٌ على النَّصْرِ

في بغداد لقي أبو القمقام خيراً من أولئك الذين تركهم خلف ظهره في نجد، لقي مَن يُبجِّلونه ويرفعون قدره، لا يرجون منه مالاً وهو المقل منه، ولا جاهاً وهو الذي ترك جاهه في مجاهل الصحارى والرياض، إنما يُعْنون بكلامه، ويَتلقَّطُون أخباره، ويتَحفَّظُون أشعاره، يَروْنَ في كل هذا مغنماً، ولا يراه أبو القمقام مغرماً، بل إنه يزهو وكأنه بين السماء والأرض، عندما يرى الجمع من المُتحَلِّقِين حوله كأنه كانون في ليلة شتاء هبَّت فيها الصَّبَا، يَسْتزِيْدُون منه الحديث، ويَتطَلَّبُون الأشعار، فيُحسُّ بأريحيَّة الكريم وهو ينفق ماله للمُدَّاح بالحق والباطل.

أول هؤلاء المُتحلِّقين شيخ إذا أدَارَ أبو القمقام بصره في سَحْنَته رآه جاحظ العينين، قبيح المنظر، لكنه إذا سمع كلامه سَحَرهُ حتى تمنى من كل قلبه ألَّا يسكتَ، هذا الجاحظ الذي لم ينس أبو القمقام أن بَصْريَّةً لم تجد أشبه بالشيطان في البصرة منه.

ومن المُتحلِّقين سَلَمةُ بن عاصم، ذلك الذي يستمع إلى كلامه فيَسْتعِيدُهُ حتى يستقين منه، وكأنه يبحث عن زلة أو خطأ من أبي القمقام، أسكنه في لسانه مخالطةُ الحواضر، لكن أبا القمقام يغفر له ذلك نظير اهتمامه به، وتقييده لكلامه وشعره.

ومنهم الكسائي وتلميذه الفرَّاء، اللذان عُنِيا بما يُورده أبو القمقام من أشعار غيره، لعلَّهُما يجدان فيها شواهد تُعِينهم على أقرانهم البصريين، الذين يُضَارُّونهم. هؤلاء وغيرهم ضربت علاقتهم مع أبي القمقام في أرض بغداد جذورها، البلدة التي جمعتهم من أصقاع شتى، فكان يُلِمَّ بهم ويُلمُّون به.

لم يكن أبو القمقام بخيلاً، وإنما أضرَّ به الإقلال، فرأى أنَّ من العار أن يأكل في بيوت هؤلاء ولا يدعوهم. لبُّوا دعوته، وبينما هم بين لذَّتَيْنِ: لذَّة حديثه وأخباره وأشعاره، ولذَّة اللحم المشوي الذي قدَّمه لهم في جفنة كبيرة، فتتَناهَسَ الأيدي شواء أبي القمقام، والتَهَمُوه التهاماً، وثبَ أبو القمقام مسرعاً، وأتاهم بسَفُّود فيه جرابيع تتقاطر دُهْناً، سَلَتَها في الجفنة، فلمَّا تقاطرت من السفود في بطن الجفنة عَلِم القوم أنَّهم قد دُهُوا بداهيةٍ من دواهي أبي القمقام، فرفعوا أيديهم سراعاً من الجفنة إلى حلوقهم، وجعلوا يَسْتقِيئونَ ما أكلوا، وما علموا أن الجربوع عند أبي القماقم ورهطه من أطيب الطعام وأهنأه، لكنهم دُهوا من ظنِّهم - وكثيرٌ من الظنِّ وَهْمٌ – أن هذه الجرابيع هي من طائفة الجُرْذان التي تملأ بغداد.

لم يجد أبو القمقام بُدًّا من أن يُكْمل الطعام ويتركهم وشأنهم يُعانون آلامَهُم المُتَوهَّمة، ولو أنهم لم يروا ما في السفود لدَعوا لأبي القمقام بالنَّماء والغِنَى، وآفة الإنسان جهل ما لم يعرف، وحمله على خلاف الحقيقة.

على أن أبا القمقام قضى بقية حياته في بغداد مُسْتمتعاً بما فيها، لكنه لم ينس مرابع أهله، ومواطن صباه، فكان يحن إليها، يقول مُتوجِّداً:

أجِدُّكَ لَسْتَ الدَّهرَ رَائِيَ رَامَةٍ

ولا عَاقِلٍ إلَّا وأنتَ جَنِيْبُ

ولَا مُصْعِدٍ في المُصْعِديْنَ لمَنْعِجٍ

ولا هَابطاً ما عِشْتَ هَضْبَ شَطِيْبِ

وقال أيضاً:

اقْرأَ على الوَشَلِ السَّلَامَ وقُلْ لَهُ

كُلُّ المَشَارِبِ مُذْ هُجِرْتَ ذَمِيْمُ

سُقْياً لِظِلِّكَ بالعَشِيِّ وبالضُّحَى

ولِبَرْدِ مَائِكَ والمِيَاهُ حَمِيْمُ


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد