علي بن محمد الرباعي
تجاوزت الكهلة (فاصلة) المائة عام من العمر، ولا تزال متماسكة البِنيَة، والذهن لكم عليه؛ يغيب أكثر مما يحضر، برغم احتفاظها، بطلاقة اللسان؛ وبلاغة القول، خصوصاً عندما تروي تاريخاً؛ تلتقط الحكمة، وتستحضر الشواهد الشعرية والأمثال الشعبية، إلا أنها تتلبسها فصلة مفاجئة، ربما تكون مفتعلة، لأنها وقتما تتلبسها الحالة تتبسّم لأحفادها وتغمز بعينها السليمة، وكأنها تتعمدها تصفّي حساباتها مع كل من حولها، واسمها الفعلي (نشمية) ومن يناديها فاصلة تردّ عليه (فَصَل عقلك).
أقسمت لحفيدها (نشمي) بأنها لو ما لحقت على نفسها مغرب أمس لكانت ما رقدت إلا بين الصِّلي مع الفانين؛ وأضافت؛ لو مديت قدمي الثانية، من فوق العابر، كان خنطلني ملك الموت، عشان ياهب سبباً لنزع الروح؛ عوايده، مع أهلي قدامي، ثم تسرد كيف ومتى مات أبو جدها، ولا تتبرم من الشماتة فيه؛ تقول؛ لقنوه لا إله إلا الله وآبى يقولها ما غير يصيح (حمّوا الزير، وانحروا البعير، ودوشقوا السرير، يا دلالين الحمير)، وتكركر حتى تدمع عيونها، مرددةً؛ يا الله فال خير وش أغدانا عليهم؟.
حافظت على رشاقتها؛ فلقماتها معدودة؛ وترفض الشبع، وما تفك؛ من شبع انفقع؛ ومن انفقع انصرع، وطيلة حياتها لم تنزع الأحجبة، التي كانت تتمنطق بها، وتعقد على الله الأمل في نجاتها، بحكم احترامها، للسادة والفقهاء، والاستشفاع ببركتهم وجاههم عند ربي، وإذا ورد اسم أحدهم قالت؛ الله يذكره بالخير، وأكثر ما ينكد عليها؛ عندما يكنسون البيت ليلاً، فتغضب، وتطالبهم يفصلون المِحْوِقة كما تطلق عليها، وتقول؛ لا تحوقون بركة بيتنا حاقتكم بقعا.
واليوم لم تعد (فاصلة) تحتمل أثر المتغيرات التي طرأت على قريتها، وهي عين راصدة لحركات وسكنات أولادها وزوجاتهم وذرياتهم، وفي هذا العمر المتقدم غدت تنزعج من تحوّل مجتمع كانت ترى قوّته في تمسكه بعوائده وأعرافه وتقاليده، وكانت تحمّل بعض الوُعّاظ المسؤولية، لأنهم «غيّروا المِلّة والدِّلة» ويا ويل وسواد ليل من يتفصحن أمامها، فهي (الصندوق الأسود) للقرية، ويمكنها في لحظات تسرد ما جا وما جرى على الكبير والصغير ومن الناقة إلى البعير، وما تفك من لسانها؛ ما حمى الديره مصلّي، ما حماها إلا العُصاه.
تقول (فاصلة) لبناتها وحفيداتها، الكفار حطب النار، غيّروا مذاهبنا، ودسوا لنا التعب في الراحة، وتروي كيف كانت تشيل بمفردها أعباء البيت والوادي والمرعى والاحتطاب، وترضيع البهم، وحلب البقرة، وهي في النفاس، وتسخر من زيادة أوزان الحريم، وتردد، هذي النفوخ فيكن ما هي عافية يا جيل ادفع وارفع وابلع، تغيّر أكلكم وشُربكم فتغيّرت أشكالكن وأوزانكن ومذاهبكن، وتضيف، يا كاف البلا، ثم تغنّي (حليل بنت البوره، ما كنها إلا كوره؛ في ملعب البزوره).
و(فاصلة) ماهرة في افتعال الأزمات في أوقات، ثم الهدوء لساعات؛ فإذا ضجّ البيت، علّقت؛ البيت مثل السوق اللي ماله عقود ولا عقّادة؛ وإذا هدأ انزعجت من الصمت، فتشن هجومها؛ بيوتكم هابية، ووجوهكم كابيه، الرجال منبطح على بطنه فوق جواله، والمرة منكعرة على ظهرها قبالة تلفزيونها، والورعان في أحضان الشغالات والسواقين، وتتساءل؛ منين ربي يرحم صُفّة؛ أرمش وانفش، وافزع بالقش، وتصدح (اللاش ما اسمع شوره، يندس تحت التوره، لو كُثرت قروشه، ما شبعت كروشه) وتقطع النشيد قائلة؛ معي واهل في باطن قدمي اليسرى، فتحكها وتردد؛ الله يا من يتلحقني لا يلحقه خير.
تلوم الأسرة إذا سهرت، وتعاتبها على استغراقها في النوم، وتؤكد لهم ولهنّ؛ أنها وجيلها يرقدون مغرب، ويصحون قبل ما تسفّر، يهللون ويكبّرون وكل نفس تلمح لها ضيعة، وتدير وجهها نحو الابن الكبير وتقول؛ واللي ما معه ضرس وناب، تتعشاه الذياب، وتفقد بعينها، أن الرجال لو ما يلقى ولا يلتقي، هيبته محفوظة، وحرمته عضد وسند، وتعرّج على حفلات الزواج، قائلة؛ العروس إذا راحت ما يتناصف الليل إلا وهي كما أمها، وذلحين ما تركب سيارة الزفة إلا مع الفجر، وإذا طلع النهار تناكحوا، حزّة مناكحة الكلاب.
وتنتقد علاقات ومشاعر الأمهات الباردة تجاه الأطفال؛ فترى أن الدجاجة تحرز بيضها، وتضم فرانيجها تحت جنحانها، وما تنكر منهم واحد، ولا تغفل عنه، لين تطّمن أن كل واحد شال نفسه، وتغرّب على نسوان هذا الوقت، متعجبة كيف تفلح عن زوجها ومولودها باقي في الطمرة، وما درت عن اللي بردان من اللي دافي من العيال، وما عليها إلا من نفسها تتمارى وتتمايل، وتتبدّى للسافل والهامل.
وتعزو قوة صلة الرحم سابقاً، إلى كون العيال يأكلون من المزارع، والمقابر محيطة بها، فالحنطة والشعير والذرة والعدس، تشرب عصارة أجساد الموتان؛ فتغذيهم بروح الأخوة والعزوة والشيمة، فيما هذا الزمان صاروا يأكلون من الطحين المستورد؛ اللي يسمدونه بزبل الدجاج؛ وتضحك بثغر خالٍ من معظم أسنانه؛ وهي تقول؛ إنتم ما تشوفون الدجاج يخرج من عشة واحدة، ويحثي التراب والدمن في وجيه بعضه، وصياصانه تناقر وهي دوبها فقست من البيض.
وكم توقفت طويلاً أمام ملامح المواليد الجدد وكثرة حركتهم وصراخهم في البيوت، وتصفهم بلقوفة الشياطين، وتضيف؛ كانت الآدميّة تتوحم على جدها وخالها وتلد في بيتها، واللي عندها يسمين عليها، ويلتقفن المولود ولسانهن ما يفتر من ذكر الله؛ ويوجرونه بسمن البقر، ويحنكونه بتمرة من تمر ديارنا، وحريم بقعا في ذا الزمن، توحّم على هندي وسندي واللي ماهب عندي؛ من اللي تشوفهم في التلفزيون والأسواق، لين تغيرت وتبدلت وجيه وأعمار عيالنا؛ وإذا ولدت استقبلته واحدة لا نعرف مذهبها ولا دينها سماعتها في إذنها ومسجلّها يدندن، ويسمع المولود برطقتها ويلتقطها قلبه قبل لسانه، ثم تنشد؛ منين ياجي في قوم ياجوج وماجوج خير ولا نفعة؟!.
إذا أحد قال لها؛ استحي يا عمّة (فاصلة) من بعض الهروج، ردّت؛ ما خليتم للحياء منسم الإبرة، وعندما عرضها ابنها على أطباء، كلهم أكد أنها بألف عافية، وهي ترفض الذهاب للمستشفيات؛ وترى أنه ما يشافي ولا يعافي إلا ربي؛ وإذا زوّدها ابنها البكر معها؛ قالت خلك يا الديك الأصمع، مع المنتّفَه حقّتك اللي نتّفت ريشك، وما بقي لك إلا ريشتين في ذيلك لا فيها بركة ولا تحميك من الديكة؛ فتعلّق زوجة ابنها؛ أقدى من سماك فاصلة يا كهلة نوح ما عاد معك من عقلك سُلته، وإذا شعرت أنها زعلت عليها؛ ولكونها تحتاجها؛ تطري خالها اللي كان يقص أظلاف غنم القرية في ضحوة، ويخصّي الطليان بسنونه؛ وإذا نامت القرية لبس له جاعد وتنسبل على المخاريق، مخلاته في جنبه؛ ومرزقه في دربه، فيضحك ابنها ويقول لزوجته؛ مدري أمي تمدح جدك والا تتشمت به؟ فتردّ؛ الله يركبك الجبال إنت وأمك، ما تخافون الله تشوفون عيوب الناس ما شفتم عيوبكم؛ أمك فاصلة وأنت أفصل منها.