: آخر تحديث

القداسات المضللة

3
3
3

ليس هناك أسهل من استخدام عباءة الدين لتغطية عيوب الإنسان ونقاط ضعفه. وليست هناك وسيلة أكثر سهولة و«بركة» من جمع المال باسم الدين، سواء في الشرق أو الغرب، بصرف النظر عن العقيدة، لعلم من يجمعها بأن البشر يبحثون عن الأمل والأجر وطمأنينة النفس، عن طريق التبرع. وسبق أن عانينا الكثير، في جمعية الصداقة الإنسانية، من عدم قدرة البعض، أو عدم اكتراثهم، على التفريق بين من يستحق تلقي التبرع، ومن لا يستحق، ولا نزال نعاني، متمنين أن يضع القانون الجديد للجمعيات والمبرات حدا للتسيب والاستغلال السيئ.

بالرغم من «الهالة» التي يتمتع بها رجل الدين، ويختلف حجمها ولونها من دولة لأخرى، إلا أن هناك توجسا وحذرا متزايدا منهم، مع تزايد مخالفاتهم، التي ساهمت تلك الهالة طويلا في التغطية عليها، أو التسامح معها، وما يحدث في دولنا يحدث ما يماثله في المقلب الغربي، وبدرجة أكبر بكثير، خاصة مع نوعية معينة من الجرائم، مع الأخذ في الاعتبار أن «العادات والتقاليد» في دولنا تساهم في «منع» الحديث عما يماثلها من جرائم. فوتيرة الاتهامات الموجهة لرجال الدين، الكاثوليك بالذات، خاصة ما تعلق بجرائم الاعتداءات الجنسية على الأطفال، مع تردد الكرسي الرسولي، لقرون، عن إبداء الحزم في مثل هذا الأمر، والاكتفاء بالطلب من رجال الدين «المتورطين» إما الاستقالة من السلك، أو نقلهم لأبرشيات، وغالبا بعيدا عن مكان اقتراف جرائمهم، إلا أنها أصبحت تخرج للعلن في السنوات القليلة الماضية، خاصة مع الحزم الذي أبداه الفاتيكان في عهد البابا الراحل فرانسيس، بعد خروج حقائق مُثبتة وموثقة، عبر تحقيقات قضائية ولجان تحقيق مستقلة وتقارير صحافية استقصائية، في عشرات البلدان حول العالم، لتصبح من أكبر الفضائح أو الأزمات التي واجهت الكنيسة الكاثوليكية في تاريخها، كاشفة عن عقود من الانتهاكات الممنهجة والتستر المؤسسي.

مع زيادة الحديث عن تلك الانتهاكات، تزايد أيضا عدد الضحايا الذين أصبحوا على استعداد للخروج من صمتهم، ليتبين للغافل أن الحالة «عالمية»، ولا تقتصر على منطقة جغرافية معينة، بل هي نمط متكرر.

ومن أبرز التقارير، التي صدرت مؤخرا، في ولاية بنسلفانيا، ما تعلق بوجود أكثر من 300 قسيس اعتدوا جنسيًا على ما يزيد على 1000 طفل على مدى 70 عامًا. وكشفت تحقيق «بوسطن غلوب» عن عقود من الاعتداءات الجنسية التي ارتكبها كهنة في أبرشية بوسطن، وكيف تستر الكاردينال «برنارد لو» على الجناة بنقلهم لأبرشيات أخرى. وفي فرنسا خلصت لجنة تحقيق إلى أن ما يقدر بنحو 216.000 طفل تعرضوا للاعتداء من قبل قساوسة ورجال دين منذ عام 1950. ويرتفع العدد إلى 330.000 ضحية إذا أُضيف لهم المعتدون من غير رجال الدين، العاملون في مؤسسات الكنيسة. كما صدرت تقارير مماثلة في أستراليا عن قساوسة كاثوليك اتُهموا بالاعتداء الجنسي على أطفال بين عامي 1950 و2010. وخلص التقرير إلى أن الكنيسة «أخفقت بشكل مأساوي» في حماية الأطفال. كما شملت الفضائح، أو الجرائم الكبرى، ألمانيا وكندا وأيرلندا، وغيرها الكثير، مما تسبب في حدوث صدمات عميقة، وتراجع كبير في سمعة وسلطة الكنيسة.

حدث كل ذلك نتيجة استغلال الثقة بالمؤسسة الدينية، واستغلال بعض رجال الدين، كما هو الحال في كل دول العالم، لمكانتهم الروحية وثقة الأطفال وأسرهم بهم، للوصول إلى ضحاياهم والاعتداء عليهم، هذا إضافة للتستر المؤسسي، أو بالترهيب، أو بتسويات مالية.

من المؤسف ملاحظة أن الفاتيكان حاول طويلا الإنكار أو التقليل من حجم المشكلة، لكن مع تزايد الفضائح والضغط العام، تغير موقفه تدريجيًا، وهذا دفع البابا بنديكت الـ16 والبابا السابق فرنسيس للإقرار بحجم الأزمة وقدما اعتذارات للضحايا. ووصف الأخير هذه الجرائم بأنها «فظائع» وخيانة لرسالة الكنيسة، وسمح باللجوء للإجراءات القانونية، لأول مرة، لتسهيل محاكمة القساوسة المعتدين ومن تستر عليهم، وهذا ما يجب أن يتّبع في كل دولنا، فلا حرمة ولا حصانة لأية جهة أمام مثل هذه الجرائم المدمرة.


أحمد الصراف


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد