سوف يكون على صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أن تعود إلى ملحقها الصادر في 15 مايو (أيار) 1998، وأن تتناول عنوانه بشيء من التعديل لعله يتماشى مع واقع الحال.
كان ذلك التاريخ يوافق ذكرى مرور خمسين سنة على قيام إسرائيل، وكانت الصحيفة قد فكرت في أن تقوم بما يشبه الاستطلاع بين الرؤساء الأميركيين الذين تعاقبوا على البيت الأبيض طوال نصف القرن المحُتفى به. وكان من الطبيعي أن يمتد استطلاع الرأي ليبدأ من الرئيس هاري ترومان، الذي كان في البيت الأبيض يوم الإعلان عن قيام إسرائيل، ثم ينتهي عند الرئيس بيل كلينتون الذي كان في البيت الأبيض نفسه يوم تمام نصف القرن.
وكان الاستطلاع سيمتد طبعاً ليشمل كل الرؤساء الذين حكموا من بعد ترومان وصولاً إلى كلينتون، وسواء كانوا أحياءً أو من بين الموتى، فلقد كانت كلمات وخطابات الذين رحلوا منهم كفيلة بأداء المهمة التي قرر الاستطلاع أن ينهض بها.
كان ملحق الجريدة يطرح سؤالاً واحداً، وكان يسعى إلى الحصول على إجابة له من الرؤساء الأحياء، أو يبحث فيما ترك الراحلون وراءهم من خطابات سياسية ليحصل منها على الإجابة نفسها، وكان السؤال كالآتي: ماذا تعني إسرائيل بالنسبة إليك؟
ومن العجيب أن الإجابات كانت واحدة، وأن إجابة الرؤساء الأحياء لم تختلف في شيء عن إجابة الرؤساء الذين غادروا دنيانا، فجميعهم كانوا متفقين على أن أمن إسرائيل يمثل التزاماً بالنسبة إلى إدارة كل واحد فيهم، وكان اتفاقهم غير مكتوب طبعاً، فلم يحدث أن التقوا جميعاً على طاولة واحدة بحيث يتفقون على ما أظهره الاستطلاع.
بدا أولهم وكأنه قد ترك وصية من ورائه وفي مكتبه بالالتزام إياه، وبدت الوصية وكأنها راحت تنتقل من رئيس إلى رئيس فلم تتخلف عن الانتقال أبداً، ولم يتخاذل واحد منهم في الالتزام بها، وكأنها وصية مقدسة من السماء.
ولأنها عاشت كذلك من أيام ترومان، فهي قد وصلت مكتب ترمب بالضرورة، لأنه في النهاية واحد في الصف الممتد الطويل. ولكن الواضح مما نتابعه أنها كانت تنتقل بنصها من رئيس سابق إلى رئيس لاحق، بغير تعديل في صيغتها المتفق عليها، وهي صيغة تقول كما يتبين مما أظهره الملحق وقت صدوره، أن الالتزام هو لإسرائيل في العموم، لا لأحد فيها على وجه الخصوص.
إلا ترمب الذي طاب له أن يتحول بالالتزام من إسرائيل، إلى الالتزام لرئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، وأن يقول ذلك ويعلنه فلا يجد فيه أي حرج!
لقد أدهشنا أن نتابع زيارة الرئيس بايدن إلى إسرائيل في بدء الحرب على قطاع غزة، وقد استهول بعضنا يومها أن يطير سيد البيت الأبيض فوق المحيط من شاطئ إلى شاطئ، لا ليزور دولاً عدة في المنطقة مثلاً، ولا ليقوم بجولة في أنحاء الإقليم، ولكن ليهبط في مطار بن غوريون وحده، وليلتقي نتنياهو فقط، ثم يغادر عائداً من بعد ذلك.
عاش بعضنا من بعدها يستهول أن يتم هذا على الملأ، وعشنا نرى أن الولايات المتحدة أكبر من أن ترتكب سلوكاً سياسياً مثل هذا لا يليق بها ولا بمكانتها، ولكننا جئنا إلى زمن أعلن فيه ترمب ويعلن أن رئيس الحكومة في تل أبيب بطل حرب، وأنه يجب أن يتخلص من المحاكمات التي تنتظره في قضايا جنائية لا سياسية في بلاده!
ورغم أن جانباً واسعاً من الرأي العام في داخل إسرائيل قد ضج مما أعلنه ترمب، ودعاه إلى الكف عن التدخل في شأن إسرائيلي داخلي، فإن هذا لم يجعل الرئيس الأميركي يكف عما يقوله، بل ذهب إلى حد دعوة رئيس الحكومة لزيارة واشنطن، لتكون هذه هي الزيارة الثالثة له منذ دخول ترمب مكتبه في العشرين من يناير (كانون الثاني) الماضي. إن عدد زياراته في هذه الفترة الوجيزة سابقة لا نظير لها، لا على مستوى رؤساء حكومات إسرائيل في السابق وحدهم، وإنما على مستوى مختلف الساسة الذين يزورون واشنطن من أرجاء العالم منذ أن أصبح ترمب صاحب القرار فيها!
وعندما وجد رئيس الحكومة الإسرائيلية أنه في هذه الوضعية غير المسبوقة، فإنه تمادى من جانبه وراح يربط التوصل إلى وقف للحرب في غزة، بالتوقف عن ملاحقته قضائياً في قضايا جنائية داخلية لا علاقة للحرب بها!
من أجل ذلك كله سوف يكون على صحيفة «نيويورك تايمز» أن تعود إلى ملحقها، وأن تتدخل فيه ببعض التعديل، وأن يكون التعديل في عنوانه، وأن يصبح العنوان بعد تعديله هكذا: ماذا يعني رئيس وزراء إسرائيل بالنسبة إليك؟
ما أصعب أن يصل العالم إلى حال تُصبح فيه الحقيقة عارية لهذا الحد، وما أقسى أن يكتشف الذين فقدوا عشرات الألوف من أحبابهم في الحرب، أن الذي أفقدهم هذا العدد من ذويهم يوصف بأنه بطل حرب. ما أصعب هذا وما أقساه عليهم وعلى كل صاحب ضمير حي، ولكن ما أصدق شاعرنا وهو يقول: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.