: آخر تحديث

الضجيج الذي لا يُسمع.. حين يصير الصمت ساحة حرب

5
4
4

سارا القرني

ليس كل صمت هدوء، أحيانًا يكون الصمت صراخًا مكتومًا، وضجيجًا لا يُسمع، وعراكًا داخليًا لا يُرى. هناك لحظات في حياة الإنسان لا يجد فيها الكلمات لتصف ما يمرّ به، ليس لأنه لا يستطيع الحديث، بل لأن اللغة أضيق من أن تحتوي كل ما يشعر.

نعيش في زمن الصخب، حيث الكل يتكلم، الكل يعبّر، الكل يعرض نفسه في كل لحظة... ومع ذلك، لم يكن الشعور بالوحدة بهذا العمق من قبل. المفارقة أن الضجيج لا يُخفف، بل يُربك. يجعل الداخل أكثر ازدحامًا، ويجعلنا نركض أكثر هربًا من ذواتنا.

في داخلي حرب لا تُعلن، وجبهات لا تهدأ. أقاتل كي لا أبدو منكسِرًا، وأبتسم لأن الانهيار لا يُناسب ملامحي أمام الآخرين. نُتقن دور القوي لأننا تعبنا من دور الضعيف، لكن ما لا يعرفونه أن الداخل هشّ، يئنّ، ويتصدّع بصمت.

الضجيج لا يصدر من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضًا... من تلك الأسئلة التي لا إجابة لها، من الخيبات التي لم تُروَ، من العلاقات التي انكسرت، من الأحلام التي تم خنقها بأيدٍ ناعمة لكنها قاتلة.

حين يصبح كل شيء مشهدًا يجب أن يُبهر، يصبح الصدق عملة نادرة، والهدوء تهمة، والتأمل انسحابًا. ولكن، ماذا لو كان الصمت خيارنا الأخير للبقاء؟ ماذا لو كان الصمت هو الحصن الوحيد المتبقي كي لا نفقد ذواتنا بالكامل؟

في هذا العالم السريع، لا أحد يتوقف ليسمعك إلا إذا صرخت. لكن ماذا عن الذين لا يُجيدون الصراخ؟ الذين ينزفون في عزلتهم؟ الذين يُحاربون وهم يبتسمون؟ الذين إذا سقطوا، سقطوا بصمتٍ كامل دون ضجيج ولا إعلان؟

ليس كل من انسحب ضعيفًا، هناك من يختار الغياب لأن وجوده لا يُفهم، وهناك من يتوارى لأن روحه تحتاج راحة لا يُقدّرها أحد. نحن لا نهرب من العالم، بل نبحث عن ركنٍ نعيد فيه ترتيب أرواحنا، ركنٍ نلملم فيه شتاتنا دون أن نُضطر لشرح التفاصيل.

الضجيج الذي في الداخل لا يحتاج صوتًا، يحتاج احتواء. لا يحتاج حلولًا، بل حضنًا صادقًا يصدق أن ثمة من يسقط وهو صامت. ذلك النوع من السقوط الذي لا يلتقطه أحد، لأنه يحدث في منطقة لا يراها أحد.

ربما لا نملك ترف الشكوى، لكننا نملك حق الكتابة. وحين لا نجد من يسمعنا، نكتب. نكتب لا لنُفهِم، بل لنتنفس. لأن الحروف، في أحيان كثيرة، تُنقذنا من الغرق الذي لا يراه أحد.

في النهاية، هذا الضجيج الذي لا يُسمع... هو الصرخة الأصدق في زمن التصفيق الزائف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد