: آخر تحديث

الشعر والرواية.. الشكل والبيئة

5
4
3

منذ بداياته الأولى، ارتبط الشعر العربي بالفضاء الصحراوي ارتباطًا عضويًا، لا مجرد علاقة بين شكل أدبي وبيئة جغرافية، فالصحراء لم تكن فقط خلفية مكانية تدور فيها الأحداث الشعرية، بل كانت روحًا تسري في بناء القصيدة وتُشكّل خصائصها الإيقاعية واللغوية والوجدانية، في المقابل، جاءت الرواية، بوصفها شكلًا سرديًا حديثًا، معبرة عن روح المدينة، بتفاصيلها المركّبة، وتشابك علاقاتها، وتنوّع أزمنتها، وتعدّد شخصياتها، وهذا التباين بين الشعر والرواية لا ينحصر في الأداة الفنية أو التقنية، بل يمتد ليعكس رؤية كل فن إلى العالم، وإلى الإنسان، وإلى الوجود، فالشعر العربي القديم وُلد في بيئة الصحراء، حيث الصفاء المكاني والبساطة العمرانية والوضوح الاجتماعي، وقد انعكست هذه السمات في بنية القصيدة الجاهلية، التي كانت تنطلق من الذات وتدور حولها، تعبيرًا عن الفخر أو الحنين أو الغزل أو الحكمة، وكل ذلك في بيئة مفتوحة، حيث لا جدران تفصل الإنسان عن الأفق، هناك تكوّنت لغة شعرية مشبعة بالتكثيف، محمّلة بالإيقاع، ذات طابع شفوي، تلائم نظام القبيلة الذي يقوم على السماع والحفظ والتداول الشفهي، وظلت القصيدة طوال عصور الشعر الأولى تُبنى على وحدة البيت، لا على منطق السرد، لأن السياق القبلي لم يكن يتطلّب الحكاية بقدر ما كان يبحث عن الذكر، والبيان، والرمز، وهكذا تحوّل الشاعر إلى لسان حال القبيلة، وصار شعره مرآة تُظهر ملامح بيئته: الصحراء الممتدة، حيث الإبل، والنجوم، والحنين، والرحيل، لهذا، فالشعر في أصله الصحراوي فنّ لحظةٍ مكثّفة، لا سردٌ ممتد؛ وموقفٌ وجداني أكثر منه حبكة عقلانية.

أما الرواية، فقد نشأت في أحضان المدينة، حيث التركيبة الاجتماعية أكثر تعقيدًا، والزمان أكثر تحوّلًا، والإنسان أكثر غموضًا وتعددًا، فالمدينة، بخلاف الصحراء، تُنتج طبقات من السلوك، وأنماطًا متباينة من التفكير، ومساحات من التفاعل الذي لا يمكن اختزاله في بيتين أو أبيات، بل يتطلّب بناءً سرديًا طويلًا ومركّبًا كما أن الرواية بنت الطباعة، بينما الشعر ابن الشفاه، وهي كذلك ابنة العقل المدني، الذي يسأل، ويشكّ، ويراجع، ويعيد التفسير، وهذا ما يجعل الرواية غالبًا أكثر تشكيكًا وفتحًا للأسئلة، فيما يميل الشعر إلى الحسم العاطفي والانفعال التامّ، كذلك تتطلب الرواية زمانًا ممتدًا ومسارًا سرديًا يتابع مصير الشخصيات وتحولاتها في قلب المجتمع، ولهذا فإنها تنتمي لبيئة تتسم بالاستقرار والتحوّل المدني المتواصل، على عكس الطبيعة البدوية التي تتكرّر فيها الحياة وتُعاد فيها الطقوس.

وحين دخل العرب إلى زمن الحداثة، حدث نوع من الخلل في التوازن بين الشعر والرواية. فبينما ظلّ الشعر محتفظًا بروحه الصحراوية رغم تحديث لغته وتقنياته، وجدت الرواية نفسها في موقع الريادة في التعبير عن تحولات المدينة العربية الحديثة، بما تحمله من هزائم سياسية، وتحوّلات اجتماعية، وانهيارات نفسية. وهكذا أصبحت الرواية ميدانًا لتفكيك العالم، بينما استمر الشعر في سعيه لتكثيف العالم، لكن هذا التمايز لا يعني قطيعة بين الفنّين، فكما استطاع بعض الشعراء أن يُدخلوا المدينة في قصائدهم - كما فعل السياب وأدونيس ودرويش - تمكن بعض الروائيين من الاحتفاظ بجمالية اللغة الشعرية داخل نصوصهم. غير أن الفارق الجوهري يبقى أن الشعر يحاول أن “يقبض” على لحظة، بينما الرواية تحاول أن “تروي” حياة وفي آخر الأمر يبدو أنّ الفرق بين الشعر بوصفه فنًا صحراويًا، والرواية بوصفها فنًا مدنيًا، يتجاوز الجانب الجغرافي أو البيئي، ليمس جوهر الرؤية الفنية لدى كل منهما، فالشعر ابن الصفاء والبداوة والفطرة، بينما الرواية ابنة التراكم والتفاصيل والأسئلة، وإذا كانت القصيدة صوت الذات في فضاء مفتوح، فإن الرواية صوت الجماعة في مدينة مكتظة. وبين هذا وذاك، يظلّ لكل فنّ مجاله ورؤيته، يعبر عن الإنسان العربي في تحولاته بين البادية والحاضرة، بين الإيقاع والسرد، بين النشيد والحكاية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد