: آخر تحديث
الفنان الكردي الكبير يوسف جلبي في الذكرى الثالثة والخمسين لاستشهاده:

صوت أصيل لم يمت وذاكرة تبحث عن إنصاف؟!

2
1
1

تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة والخمسون لاستشهاد يوسف جلبي (1927 - 1962)، الفنان والمغني والشاعر الكردي الذي لم يكن صوته مجرد لحنٍ للترفيه، بل صدى لقضية، وصرخة في وجه نظام لم يحتمل الأغنية حين صارت وعيًا. استُشهد يوسف جلبي تحت التعذيب في ربيع عام 1962، بعد سلسلة اعتقالات ومضايقات مارستها ضده أجهزة الأمن، على خلفية مواقفه القومية والاجتماعية. واليوم، وبينما تُردد أغانيه على ألسنة الناس، بعد دخولها كل بيت كردي في أجزاء كردستان والشتات، يبقى اسمه غائبًا عن كثير من السجلات، وكأن المطلوب أن يُمحى ليس فقط بالجسد، بل من الذاكرة أيضًا.

من ضيفٍ عند الرئيس... إلى ناقد غاضب في أغنية
من المحطات اللافتة في حياة يوسف جلبي أنه زار في أوائل الخمسينيات الرئيس السوري فوزي السلو، وهو أول رئيس كردي في تاريخ سوريا. أقام جلبي في بيته في دمشق لبعض الوقت، وكان اللقاء ودّيًا، محمّلًا بالأمل في أن يُصلح هذا الرئيس شيئًا من الظلم اللاحق بالفلاحين في منطقة الجزيرة. ومن بين ما وعده به، توزيع الأراضي على الفلاحين، وهي قضية كانت تؤرق يوسف جلبي بصدق، إذ كان منحازًا دومًا للفقراء والمهمّشين، رغم امتلاكه لأكثر من قطعة أرض من قبل الشيخ إبراهيم عبدالمحسن الشخصية العربية شيخ عشيرة الراشد، الذي رد إلى أسرته الجميل باعتباره لجأ إليهم في  قرية جبلكراو في - منطقة أومريان - في كردستان تركيا وأقام لدى والده، مكرماً، إلى أن أزيل سبب لجوئه، فمنح العائلة مئتي دونم من أراضيه واستقدمهم إلى قرية الحدادية، لتقيم فيها الأسرة التي عادت فيما بعد إلى قرية طوبس، عند قريبة الأسرة الشيخة خنسا سليمان شقيقة الزعيم أحمدي سليمان و زوجة أحد كبار الشخصيات الكردية. زعيم تحالف الميرسنية!

لكنَّ هذه الوعود لم تُنفذ. وعاد يوسف جلبي من دمشق بخيبة أملٍ كبيرة. لم يصمت. لم يكتب مقالًا، بل لجأ إلى ما يجيده: غنّى نقده. كتب وأدى أغنية بعنوان "زعيم سلو"، وجه فيها نقدًا مباشرًا للرئيس الذي خذل مطالب البسطاء. الأغنية لم تكن تلميحًا، بل تصريحًا صريحًا بالخذلان الطبقي. لم يخفِ الاسم، ولم يخفِ الهدف، وكانت الأغنية بمثابة مواجهة موسيقية لسلطة كانت لا تحتمل الصوت، فكيف تحتمل الأغنية؟

بعد تلك الأغنية، بحوالى عشر سنوات، ازدادت وتيرة مضايقات السلطة ليوسف جلبي. لاسيما إنه في تلك الفترة، كان عيد نوروز يتخذ طابعًا قوميًا متصاعدًا، وكانت أغاني جلبي حول نوروز وأمل الحرية تُغنّى في السهرات والسهول والبيوت. حين غنّى للكرد للتاريخ. للعدالة. للمساواة. للوطن. للعيد، وللفلاح، وللأرض، لم يكن ذلك في نظر السلطة فنًا، بل تمردًا. تعرض للاعتقال أكثر من مرة، وكان خروجه من السجن مؤقتًا، لا يُنسيه أنه تحت الرقابة.

وفي آخر اعتقال، كان كل شيء مختلفًا. اعتُقل ليلة 7/6 أيار (مايو) عام 1962، بعد خروجه من بيت صديقه رشاد بيك الذي كان أمضى سهرته فيه، وتعرض تلك الليلة لتعذيب شديد، إلا أنه لم يخرج حيًا. وُجد جسده مرميًا أمام بيت شقيقته في حي العنترية، في مشهد صادم لا يُنسى. لم يُفتح تحقيق فعلي، بعد تشريح جسده من قبل طبيب مأجور جاء برفقة مدير المنطقة، ولم يصدر بيان رسمي. فقط مات، وسكت جميعهم، إلا الأغنية، فقد بقيت.

ابنه جلبي يوسف جلبي... الحارس الذي قال كل شيء علناً بعد نصف قرن
الطفل الذي كان أول من رأى والده مرميًا أمام الباب، من قبل عربة عسكرية، أصبح اليوم رجلاً يلاحق أثره، رغم ما تعرض له من مرض في السنوات الأخيرة إنه  جلبي يوسف جلبي. فهو لم يكن فنانًا، بل حارسًا لذاكرة والده. أمضى عقودًا من حياته في البحث عن أغاني والده المفقودة، متنقلًا بين دمشق، حلب، وبيروت، ناهيك عن مدن الجزيرة. يبحث عن تسجيلات بصوته، أو شهود على أغانيه. بعض التسجيلات وجدها، لكنها كانت ضعيفة، مشوشة، مسجلة على أجهزة الخمسينيات المتواضعة: الفونوغراف أو الغرامافون "البيك آب". لقد روى ضمن أطر ضيقة ما تعرض له والده على أيدي أجهزة أمن النظام في بداية الستينيات، إلا أن أحداً لم يسمعه وقتها، إلا بعد سقوط آلة الخوف.

ولم تكن المشكلة في  ضعف الصوت وحده، بل في النسيان المتعمّد.. في إعدام من نوع آخر لإبداعه. إذ أن كثيراً من الأغاني التي كتبها ولحّنها يوسف جلبي أصبحت تُقدم اليوم على أنها من التراث الكردي غير المعروف النسب. تُغنّى دون الإشارة إليه، وتُنسب إلى "المجهول"، أو إلى أسماء أخرى، كما يقول لي نجله جلبي حارس أغانيه. حتى في مقابلات بعض الفنانين القدامى، حين يُسألون عن الأغاني قال بعضهم إنها "تراثية"، رغم أنهم يعرفون أن يوسف جلبي هو من كتبها أو لحّنها، بل هناك منصفون من بينهم أكدوا أنه كان معلمهم الأول، وأن ما بين أيديهم من أغان ملحنة إنما هي للمبدع الشهيد يوسف جلبي.

جلبي الابن كان يحزن أكثر حين يرى أن والده لم يُذكر كشاعر، ولا كملحن، ولا كأحد أوائل من غنّوا لنوروز، ولا كمعلم موسيقي علّم كثيرين. لم يُكرَّم يومًا، لا تمثالًا، ولا جائزة، ولا كتابًا* فقط ظل حاضرًا في الذاكرة الشعبية، وغائبًا عن الذاكرة المؤسسية.

ورغم ضخامة ما قدمه يوسف جلبي، إذ أكد لي نجله البكر جلبي أن أباه غنى أربعمئة أغنية كما قال هو نفسه له، ولم يتم توثيق إرثه فنيًا أو ثقافيًا. لا توجد مكتبة تحمل اسمه، ولا سجل موسيقي رسمي يُشير إليه. حتى اليوم، لا يزال غائبًا عن مناهج الفن، عن أرشيف الإذاعات، عن مهرجانات الأغنية الكردية. وكأن موته تحت التعذيب كان كافيًا ليُدفن معه كل ما صنعه.

ما قام به ابنه من توثيق يدوي وجهد فردي لا يكفي. يجب أن يُعاد الاعتبار لهذا الفنان شهيدًا، ومثقفًا، ومقاومًا. فالمجتمع الذي ينسى مبدعيه، ويكتفي بغناء أغانيهم دون ذكر أسمائهم، هو مجتمع يُساهم في طمس ذاكرته بنفسه.

لقد حان الوقت لأن يُرفع الظلم الثقافي عن يوسف جلبي. إذ إن: نصب تمثال له في قلب قامشلي، وتأسيس جائزة فنية باسمه، وجمع أعماله وتوثيقها بأمانة، وإدراج اسمه في تاريخ الفن الكردي والسوري، هي واجبات لا تكريم. هي حق.

يوسف جلبي لم يكن رجل سياسة، لكنه فهم السياسة عبر الفن. لم يحمل بندقية، لكنه أطلق الأغنية طلقةً في وجه الظالم. لم يمت لأنه غنّى فقط، بل لأنه غنّى الحقيقة. وقد كانت الأغنية حتى وقت قريب وزارة إعلام ومكتبة ثقافية بل جبهة فنية في خط الدفاع عن وجود شعب سلب أرضه، وتعرض للتذويب بين لغات الأمم إلى تم تقاسم خريطته من قبلها، وإن لم نحفظ له ذاكرته، فنحن شركاء في الجريمة، ولو بعد نصف قرن.


* هوامش:
1- عملت والمربي جلبي جلبي في أوائل الثمانينيات في مدرسة واحدة من دون أن أعلم إلا متأخراً أنه ابن فناننا الشهيد!
2- يشار إلى جهد كبير للباحث فارس عثمان في الإضاءة على تراث يوسف جلبي.
3- حوار طويل أجريته مع الصديق جلبي جلبي وقد مر بمحطات بسبب مرضه وتمت الاستعانة في جزء منه بنجله كميل جلبي الذي كان يرسل إلى ما يكتبه إلي والده
4- عدد من الفضائيات الكردستانية سلطت الضوء بعد عقود على سيرة الشهيد يوسف جلبي بجهود شخصية من فنانين غيارى.
5- تم إنجاز رواية في العام 2021 عن سيرة جلبي إلا أنها لم تطبع للآن!
6- بعد أن أحيل كل منا إلى التقاعد تم التواصل بيننا وسرد لي الكثير عن أسرار قالها للمرة الأولى بعد استشهاد أبيه، كما حدثني عما كان يحاك ضدي من مؤامرات من قبل بعض أزلام النظام، وكم كان يود لو أن تكسر المسافة وينبهني ويحذرني. إذ ثمة أسرار غريبة جديدة علمت بها.
7- تم استئصال حنجرة الصديق جلبي - بأسف كبير - إلا أنَّ ذاكرته الفولاذية تسترجع كتابياً تفاصيل جد دقيقة عن حياة أبيه الشهيد!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.