مع ظهور هذه الكلمات إلى النور تكون الكنيسة الكاثوليكية في طريقها لانعقاد أهم لقاءاتها التاريخية وأكثرها سرِّية المعروف بـ«الكونكلاف» أو مجمع الكرادلة، الذي سيختار بابا روما الجديد، خلفاً للبابا فرنسيس.
مَن سيكون البابا القادم؟
الجواب المؤكَّد هو أن أحداً لا يعرف، ولن يعرف قبل أن يتوصل الكرادلة، المعروفون بأمراء الكنيسة، إلى اختيار واحد من بينهم، لمنصب البابوية.
يتم الاختيار عبر اقتراع سري بين 135 كاردينالاً تحت سن الثمانين سنة، مع العلم أن هناك الآن نحو 253 كاردينالاً، بينهم 118 فوق سن الثمانين لا يحق لهم الترشح للبابوية، ولا المشاركة في الاختيار.
ما معنى «كونكلاف» بدايةً؟
الكلمة ترجع إلى اللغة اللاتينية، ومعناها «الإغلاق بالمفتاح»، وتشير إلى دخول الكرادلة كنيسة السيستين الشهيرة داخل حاضرة الفاتيكان، وإغلاقها بإحكام، فلا يدخل أحد إليها ولا يخرج منها، حتى تكون عملية اختيار البابا نزيهة، شفافة، مجرَّدة من أي ضغوط خارجية، كما يُمنع تواصلهم مع العالم الخارجي، فلا يحملون هواتف، ولا يتابعون إذاعات أو تلفزة خارجية... فقط صلاة وتأمل ومشاورات داخلية حتى يتم التوصل إلى البابا الجديد.
يخطر لنا التساؤل: لماذا يكتسي هذا الكونكلاف أهمية خاصة، على غير ما جرى في 2005 بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني، أو في 2013، بعد استقالة البابا بندكتوس؟
الجواب، من دون الدخول في عمق النقاشات ذات الطابع الدوغمائي المعمَّق، يعود إلى ما قام به البابا فرنسيس من عمليات إصلاحية داخل الكنيسة الكاثوليكية، والتي معها اكتسب اسم «بابا إصلاح القلب»، أي البابا الذي سعى لتغليب المساقات الروحية على الدنيوية، وطبع بابويته بالرحمة، والعطف على الفقراء والمساكين، ونزع ثوب المطلقية عن الأحكام البابوية، وقد جرى على لسانه دوماً سؤال: «مَن أنا حتى أحكم على أو أُدين الناس؟».
كان من الطبيعي أن ينشأ عن رؤية البابا فرنسيس اختلاف بين جماعتين؛ التقدميين من الكرادلة، الذين يميلون إلى المسحة الليبرالية، وعندهم أن الكنيسة ينبغي أن تكون «Aggiornamenti»، أي كنيسة عصرانية، قادرة على مساءلة أيقونات العصر، ومشاغبة ملامح التطور الإنساني، لا سيما في زمن الذكاءات الاصطناعية، وعالم ما بعد الإنسان البيولوجي.
والوجه الآخر من الكنيسة، يمثله الكرادلة أصحاب الطابع التقليدي المحافظ، الأقرب إلى القول إن الخير في كل سلف والشر فيمن خلف. وهؤلاء اعترضوا بالفعل على كثير من التوجهات التي مضى البابا فرنسيس في طريقها، وارتفع صوتهم في كثير من المرَّات، لا سيما تجاه بعض «الإرشادات الرسولية» التي أصدرها البابا فرنسيس.
لماذا يهتم العالم بشؤون وشجون الفاتيكان، أو الكرسي الرسولي، إلى هذا الحد؟
في حقيقة الأمر، تظل البابوية واحدة من المؤسسات البشرية النادرة المستقرة والمستمرة عبر ألفَي سنة، مما أكسبها نوعاً من قوة الإقناع المعنوية، وخبرة بأحاجي الكون، وقرباً من مآسي الإنسانية، ولهذا يصفها المؤرخ الأميركي الشهير وول ديورانت في مؤلَّفه الكبير «قصة الحضارة» بأنها «أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ»، انطلاقاً من قدرتها على التواصل والتسلسل، رغم كثير من الثنايا والحنايا البشرية التي عرفتها، كون القائمين عليها بشراً لا ملائكة.
يكتسب «الكونكلاف» هذه المرة، وعلى خلاف المرات السابقة، مذاقاً سياسياً مثيراً جداً، أسهم في تأجيج نيرانه الرئيسُ الأميركي دونالد ترمب، الذي أطلق تصريحاً بنكهة المزاح حول رغبته في أن يصبح هو البابا القادم، وقد جاء ذلك رداً على إحدى الإعلاميات التي سألته عمَّن يود أن يرى البابا القادم.
لكنَّ ترمب لا يمزح، وكثيراً من قضاياه الجدلية تنطلق في شكل نكات أول الأمر، كما فعل مع رئيس وزراء كندا السابق ترودو، بشأن ضم كندا إلى الولايات المتحدة واعتبارها ولاية مضافة.
في التصريح عينه، أشار ترمب إلى كاردينال نيويورك، تيموثي دولاني، الرجل الذي قاد الصلاة في حفل تنصيب ترمب لولايته الثانية. والمعروف أن هناك تسعة كرادلة أميركيين مشاركين في أعمال «الكونكلاف»، فهل يتطلع ترمب بالفعل إلى التأثير على المسيرة السرية لهذا الاجتماع، حتى يضمن السطوة الاقتصادية والعسكرية، وأخيراً الروحية الدينية للولايات المتحدة؟
قد يكون الأمر صعباً على 53 كاردينالاً أوروبياً القبول بفكرة بابا أميركي، ناهيك بتكتلات من كاردينالات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والقبول بالهيمنة الأميركية في الدائرة الكاثوليكية، ومع ذلك يظل الأمر، ولو نظرياً، وارداً.
مَن البابا القادم؟
التعبير الفاتيكاني الشهير: «مَن يدخل الكونكلاف بابا يخرج كاردينالاً»، أي إنه لا أحد قادراً على التنبؤ، قبل ظهور الدخان الأبيض من مدخنة كنيسة السيستين معلناً بابوية جديدة.