: آخر تحديث

جرائم حرب في مخيم زمزم: بين التوثيق القانوني والإفلات السياسي

0
0
0

ما وثقته منظمة العفو الدولية في تقريرها حول الهجوم على مخيم زمزم في حدود الفاشر لا يمكن قراءته كحدث معزول بل كحلقة في سلسلة طويلة من العنف الممنهج الذي تأسست عليه قوات الدعم السريع منذ نشأتها. فالجنجويد النواة الأولى لهذه القوات كانوا الأداة الرئيسية في حملات الإبادة الجماعية الموثقة في دارفور منذ عام 2003 والتي أدت إلى إحالة ملف الرئيس السابق عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية. ما يحدث اليوم في زمزم ليس انحرافًا عن المسار بل هو استمرارية لنمط عنف متجذر في الطبيعة التأسيسية لهذه الميليشيا، حيث العنف ضد المدنيين ليس خطأً تكتيكيًا بل استراتيجية بقاء وسيطرة.

ما يضفي على جريمة زمزم بعدًا أخطر من مجرد التكرار التاريخي، هو أنّ هذا النمط من العنف لم يعد ناتجًا عن فراغ سلطوي أو انفلات محلي فحسب لكنه أبعد من ذلك ناتج عن عملية استثمار (سياسي–أمني) في هذه الميليشيا، بعد أن ثبت تاريخيًا استعدادها لأداء الوظائف القذرة في الصراعات المركبة. فالميليشيا التي شُكلت أصلًا لقمع الأطراف عبر الإبادة والترويع أعيد توظيفها لاحقًا ضمن معادلات إقليمية ترى في هشاشة الدولة السودانية فرصة، لا تهديدًا. إذ هي تؤدي وظيفة تفكيك المجال الاجتماعي وكسر الكتل السكانية وإدامة حالة السيولة الأمنية التي تمنع قيام دولة وطنية مركزية قادرة على ضبط الإقليم وحدوده وموارده. إن العنف ضد المدنيين في زمزم وفي غيرها ليس فائض قوة ولا نتيجة لعجز قيادي بل رسالة سياسية مكتملة الأركان تؤكد أن هذه القوة ما زالت تؤدي الدور الذي صممت من أجله.

وبهذا المعنى: فإن من يمدها اليوم بأسباب البقاء ماليًا أو سياسيًا أو دبلوماسيًا لا يفعل ذلك بدافع الجهل بطبيعتها بل لأنه وجد فيها الأداة الملائمة لإدارة الفوضى بدل حلها، ولإبقاء السودان ساحة مفتوحة قابلة لإعادة التشكيل وفق مصالح تتجاوز حدوده الوطنية. زمزم إذن ليس مسرح جريمة منعزل بل نقطة اختبار لاستدامة مشروع يقوم على حكم الميليشيا بدل الدولة وعلى العنف البنيوي بدل الاستقرار.

التقرير الذي صدر يحمل قوات الدعم السريع مسؤولية أفعال ترقى بوضوح إلى جرائم حرب وفقًا لأحكام اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 الخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. الأفعال الموثقة تشمل القتل العمد للمدنيين والقصف العشوائي لمناطق مأهولة بالسكان وأخذ الرهائن وتدمير منشآت محمية بموجب القانون الدولي كالمساجد والمدارس والعيادات الطبية، فضلًا عن النهب والتهجير القسري واسع النطاق. كل هذه الأفعال تمثل انتهاكًا مباشرًا لمبدأي التمييز بين المقاتلين العسكريين والمدنيين والتناسب في استخدام القوة وهما حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني.

اعتماد التقرير على صور الأقمار الصناعية التي كشفت عن حفر ناتجة عن تفجيرات لم تكن موجودة قبل الهجوم يعزز المسؤولية الجنائية بشكل حاسم. فاستخدام الأسلحة المتفجرة في مناطق مكتظة بالسكان يعد قرينة قانونية على القصد الجنائي، والعشوائية هنا ليست خطأً عابرًا بل نمط سلوك ممنهج. هذا يفتح الباب قانونيًا لتوصيف الهجوم كجريمة حرب ذات طابع منظم وليست أفعالًا فردية معزولة، ما يرفع من درجة المسؤولية القيادية ويجعل قادة الدعم السريع تحت تهديد قانوني دائم.

الهجوم على مخيم زمزم لا يقرأ كمعركة عسكرية تقليدية إنما كجزء من استراتيجية تفريغ سكاني وتدمير للبنية الاجتماعية للحاضنة المدنية. المخيم الذي كان يضم قرابة مليون شخص قبل الهجوم لم يكن مجرد مأوى للنازحين بل كان مجتمعًا بديلاً بذاكرته الجماعية وشبكاته الاجتماعية وغرف طوارئه المحلية التي نظمت الإغاثة والمقاومة. قوات الدعم السريع ترى في هذه التجمعات المدنية كيانات سياسية محتملة قادرة على إعادة إنتاج نواة للمجتمع أو الدولة، ولذا فإن تدميرها يصبح ضرورة استراتيجية وليس مجرد عمل انتقامي. هذا نمط معروف في الحروب التي تستهدف الهوية لا الخصم العسكري، وهو ما يمكن تسميته العنف ضد التاريخ وقد تكلمت عنه في مقالات سابقة، حيث لا يستهدف الأفراد فحسب بل الذاكرة الجماعية والقدرة على إعادة البناء.

ما يحدث في زمزم يكشف صراعًا أعمق من النزاع على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع. إنه صراع بين نموذج الدولة الوطنية ونموذج الميليشيا العابرة للمجتمع. قوات الدعم السريع لا تنازع فقط احتكار الدولة للعنف الشرعي، بل تستبدله بعنف السوق والولاءات الشخصية والتهجير القسري. هذا يعيد إنتاج دارفور كفضاء مفتوح للفوضى المنظمة، لا كجزء من دولة بحدود وسيادة. والأخطر أن هذا النموذج إذا نجح في دارفور قابل للتعميم على بقية السودان وربما على أقاليم هشة أخرى في المنطقة على سبيل المثال حضرموت والحشد الميليشيوي مؤخرًا.

الاقتصاد السياسي للعنف في دارفور لا يمكن تجاهله. تدمير المخيمات وتهجير السكان يرتبط مباشرة بالسيطرة على طرق تهريب الذهب، والأراضي الزراعية الخصبة، والمعابر الحدودية مع تشاد. قوات الدعم السريع تدير شبكة اقتصادية واسعة تعتمد على الموارد الطبيعية والتهريب، والسيطرة على الجغرافيا والسكان ضرورية لاستمرار هذا الاقتصاد. العنف هنا ليس فوضى بل اقتصاد منظم، والجريمة ليست انحرافًا بل نموذج عمل. هذا يفسر لماذا يستمر الهجوم على المخيمات حتى بعد سيطرة الدعم السريع على المدن الرئيسية، فالهدف ليس الانتصار العسكري بل إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية والديموغرافية للإقليم.

استهداف مخيم زمزم يحمل أيضًا رسائل سياسية متعددة الاتجاهات. للسكان المحليين: لا ملاذ آمن حتى في المخيمات التي من المفترض أن تكون تحت حماية القانون الدولي والمنظمات الإنسانية. للدولة السودانية: الرسالة هي كسر أي سيادة رمزية داخل الإقليم وإثبات أن الدعم السريع قوة موازية قادرة على فرض سيطرتها بالعنف المطلق. وللمجتمع الدولي: الرسالة هي اختبار حدود الصمت والردع وقد أثبتت الأشهر الماضية أن الرد الدولي بقي في حدود الإدانة اللفظية دون أي إجراءات رادعة حقيقية ما شجع على تكرار النمط وتوسيعه.

بالرغم من أهمية توثيق منظمة العفو الدولية لا بد من التساؤل النقدي حول دور المنظمات الحقوقية نفسها في هذا المشهد. لماذا يتأخر التوثيق غالبًا؟ لماذا لا تترجم التقارير إلى ضغط سياسي حقيقي؟ هل أصبحت هذه المنظمات جزءًا مما يمكن تسميته اقتصاد الشهادة حيث توثق الجرائم وتنشر التقارير دون أن يؤدي ذلك إلى منع الجرائم أو محاسبة المجرمين؟ هذا السؤال لا يقلل من قيمة التوثيق لكنه يضع التوثيق نفسه في سياقه السياسي والمؤسسي ويكشف عن محدودية النموذج الحقوقي التقليدي في مواجهة أنماط العنف المعاصرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.