عدّة تجارب مرّت بي مع عدد من الأشخاص، الذين يُنظر إليهم بأنهم من ضمن المثقفين، أو المهتمين –على أقل تقدير- بالثقافة والفكر والمعرفة.
اقتربتُ من بعضهم –لأسباب مختلفة- وتأملتُ بعض جوانب حياتهم اليومية وأحياناً الخاصة، فلم أجد فيها ما يتماهى أو ينسجم مع قناعاتهم أو أفكارهم أو آرائهم التي يطرحونها على الناس، سواء بأقلامهم من خلال الكتب والمؤلفات والمقالات والبحوث والتغريدات...، أو بألسنتهم من خلال المحاضرات والخطب والندوات واللقاءات والمشاركات الإعلامية والثقافية والمعرفية المختلفة، أو بأفعالهم المصوّرة والمنشورة في وسائل التواصل.
بل وجدتُ لدى بعضهم العكس تمامًا، فما يمارسه ويعيشه ويقوله ويفعله في حياته الخاصة –أو الخاصة جدًا أحياناً- يتناقض تمامًا مع ما يدّعيه أو يطالب به أو يتبناه أو ينافح عنه من الأفكار والقناعات المصطنعة في المنابر والأماكن الثقافية والإعلامية المختلفة، التي عرفه الناس من خلالها.
كنتُ أظن أنّ هؤلاء حالات قليلة شاذة، وأنّ الغالب هو العكس، فالمفترض والأصل في اعتقادي السابق هو أن يكون حال الإنسان الذي يُنظّر على الناس، مطابقاً –ولو بنسبة عالية- مع ما يقوله ويكتبه من القناعات ووجهات النظر والآراء والأفكار التي يتبناها ويطرحها.
ولكنّ الصدمة كانت تزيد مع ازدياد عدد الذين أكتشفُ أنّ صورتهم الحقيقية التي تظهر بوضوح لمن اقترب منهم -في حياتهم اليومية والشخصية والخاصة- بعيدة كل البعد عن الصورة الأخرى التي يظهرون بها أمام الناس من خلال ألسنتهم وأقوالهم وأفعالهم المنشورة والمعلنة.
ومع ازدياد عدد الذين أكتشفُ أنّ حقيقتهم مختلفة عن الصورة التي يظهرون بها أمام الناس، أصبحتُ أتساءل باستمرار: هل يعقل أنّ نسبة عالية من "المثقفين" وأدعياء الثقافة والفكر والمعرفة، وأصحاب المناصب أو المسميات أو الألقاب الثقافية والمعرفية والفكرية الرنانة والكبيرة في المجتمع... هل يعقل أن نسبة عالية منهم ليسوا أكثر من مهرجين، يطرحون على الناس ما يطرحون من الأفكار والآراء وغيرها، لتحقيق مكاسب أو أهداف خاصة؟!.
هل هم مثقفون ومفكرون حقيقيون، أم أنهم ممثلون يتقنون العزف ببراعة على الأوتار التي تجذب اهتمام الناس، وتجعلهم يظهرون في صور أخرى، مختلفة اختلافاً جذرياً عن صورهم الحقيقية.
ويأتي السؤالان التاليان منطقيًا:
1- هل أهدافهم تستحق كل هذا التصنّع والتكلّف والخداع، الذي قد يكون له من السلبيات والأضرار والمتاعب الشيء الكثير؟.
2- كم نسبة هؤلاء بين الرموز الثقافية أو الفكرية أو الأدبية أو الأكاديمية أو المعرفية الموجودة في مجتمعاتنا؟!. هل هم قلة أم كثرة؟! هل هم حالات شاذة ولا ينبغي أن نبالغ في الاهتمام بأمرهم، أم أنهم غالبية يستدعي وجودها التأمل والبحث والمناقشة؟!.
هل يعقل –كما يرى أحد أصدقائي- أنّ هذا هو الأصل منذ قديم الزمن في مختلف المجتمعات البشرية، فالكتاب والشعراء والأساتذة والحكماء والمثقفون وأهل المناصب العالية ذات الصبغات المعرفية والثقافية والفلسفية والفكرية، ليسوا –في الغالب- إلا ممثلين يحققون أهدافهم ورغباتهم ومكاسبهم، من خلال التهريج والتمثيل والتصنع وخداع الناس والتلاعب بالجمهور؟!.
ما أضخم الصدمة إنْ كان كلام صديقي صحيحاً!!.
وأختم مقالتي بتغريدة قديمة كتبتها في تويتر قبل سنوات، وتلحُّ عليَّ الآن بقوة في الظهور هنا، ولا أدري ما السبب، فقد تكون لها علاقة بعيدة غير مباشرة بموضوع هذه المقالة، وهي قولي:
"أطروحات أيّ مفكر أو مُنظّر أو فيلسوف أو حكيم أو قدّيس أو كاتب أو مشرّع أو واعظ أو شاعر أو كاهن، أو أيّ داعية إلى أيّ شيء.. هي ليست إلا نتائج ظروف حياته وما يمرُّ به فيها. هذه حقيقة كبرى مؤكدة عندي اليوم، ولو أدركها الناس جيدًا لتخلصوا من غالب تعصباتهم وحماقاتهم وصراعاتهم التي لا تنتهي".

