لم يكد الغبار الذي أثارته انتخابات عام 2025 يهدأ، حتى عاد المشهد السياسي العراقي إلى عادته القديمة: العيون تتجه إلى نفس الوجوه التي أنهكت الدولة لعقدين، والكتل تعيد تدوير ذات الخيارات العقيمة وكأن البلد لم يمر بانهيارات أمنية واقتصادية وسياسية منذ 2003 حتى اليوم. الوعود بالتغيير بقيت كليشيهات انتخابية، أمّا الواقع فكان إعادة عرض لفيلم قديم يعرفه العراقيون جيداً.
المشكلة ليست فقط في أسماء مرشحين يُعاد تسويقهم، بل في شبكات متجذرة من المصالح الخاصة داخل الأحزاب والكتل، تجتمع لحماية نفوذها لا لحماية العراق. الإعلام — الذي يُفترض أن يكون رقيباً — تحوّل في بعضه إلى أدوات دعاية مدفوعة الثمن، يعمل على تلميع الفاسدين، ويطرحهم كـ "خيار وحيد للاستقرار". هكذا ينشأ الرأي العام على وهم إصلاح لا جذور له.
وسط هذا الانغلاق، يقف العراقي أمام سؤال حارق: كيف يمكن لبلد غني بكل عناصر القوة أن يظل عاجزاً عن إنتاج طبقة سياسية جديدة؟
والجواب مرّ: لأنَّ القرار الوطني نفسه لم يعد وطنياً بالكامل.
منذ سنوات، أصبح النفوذ الإيراني لاعباً ثابتاً في بنية القرار العراقي. فصائل مسلّحة، علاقات مباشرة مع أحزاب نافذة، تدخل في تشكيل الحكومات، وترتيب موازين القوى داخل البرلمان. هذا الواقع لم يعد خافياً على أحد، وقد ترسّخ تحديداً بعد 2014 حين تم استخدام السلاح والعقيدة السياسية لتثبيت نهج يضمن لطهران بقاء نفوذها داخل الدولة العراقية. ومع كل انتخابات، يتحوّل تشكيل الحكومة إلى ساحة صراع بين محور يريد إبقاء العراق تابعاً سياسياً، ومحور يريد تحرير الدولة من هذا العبء.
في هذا التوقيت، جاء الإعلان الأميركي عن تعيين مارك سافايا مبعوثاً خاصاً للعراق ليضيف عنصراً جديداً للمعادلة. سافايا — وفق تصريحاته المعلنة — لم يأتِ بروح دبلوماسية تقليدية؛ بل جاء حاملاً تحذيراً واضحاً بأن واشنطن لن تسمح بتشكيل حكومة عراقية تخضع لإملاءات فصائل مسلّحة أو نفوذ خارجي.
وقد قالها بصراحة: "لا مكان للفصائل المسلحة خارج شرعية الدولة، ولا تدخلات خارجية في تشكيل الحكومة".
هذه الرسالة — التي بثّتها وسائل إعلام أميركية وعربية مثل The National وBuratha News — كانت إشارة إلى أن الولايات المتحدة تستعد لإعادة رسم حدود الدور الإيراني في العراق، لا عبر الصدام، بل عبر الضغط السياسي والاقتصادي والدبلوماسي. تحليلات أخرى أشارت إلى أن مهمة سافايا ستكون اختباراً حقيقياً لبغداد: هل تستطيع الأحزاب أن تتخذ قرارها بمعزل عن إملاءات طهران؟ أم سيظل المشهد مرتهناً لولاءات تتجاوز حدود الدولة؟
لكن، وبكل موضوعية، لا ينبغي المبالغة في التعويل على الدور الأميركي وحده. فالقوى الداخلية — سواء أحزاب أو فصائل — لا تزال تمتلك أدوات من شأنها إعاقة أي مشروع إصلاح، أو ربما الالتفاف عليه كما حدث في جولات سياسية سابقة خلال 2010 و2014 و2018.
المفارقة أن العراق، خلال عقدين، لم يشهد اتفاقاً واحداً صادقاً بين ممثلي الشعب يضع مصلحة الدولة فوق مصالح الأحزاب. حتى اللحظات التاريخية التي كانت تستدعي وحدة وطنية، تحوّلت إلى صفقات. لذلك، كل انفراج يلوح في الأفق سرعان ما يتحول إلى نفق جديد، لأن البنية التي تُدار بها الدولة مصممة لإنتاج الأزمة لا الحل.
ولعل بوادر الانفراج التي يروّج لها الإعلام هذه الأيام ليست أكثر من محاولة تجميل سياسية. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في من يشكل الحكومة، بل في كيف تُدار الدولة، ومن يتحكم بقرارها، وما إذا كان العراق سيبقى ساحة نفوذ تتصارع فيها الإرادات الخارجية، أو سيقرر أخيراً أن يبني دولة سيادية بقرار وطني خالص.
وهنا علينا أن نعترف بأن العراقيين باتوا بحاجة إلى ما هو أعمق من الوعود، وأعمق من تدوير الوجوه. هم بحاجة إلى قانون، ودولة، ومؤسسات. بحاجة إلى أن تتحوّل أصواتهم إلى سلطة، لا إلى رقم تفاوضي في صفقات خلف الأبواب.
وإلى ذلك الحين، ستظل كل انفراجة بوابة مفتوحة على أزمة جديدة، وستظل معركة العراقي الحقيقية ليست مع انتخابات 2025، ولا مع أسماء المرشحين، بل مع نظام كامل نجح طوال عشرين عاماً في حماية نفسه، وفشل في حماية العراق.


