خلال زيارة البابا ليون إلى بيروت، تَوَهّم كثيرون أنّ المشهد الأساس سيتجلّى في الصور والبروتوكول، لكنّ اللحظة الحقيقية ظهرت في الخِطابين: رسالة الرئيس جوزاف عون، ورسالة البابا نفسه. بين خطابين أُلقيَا في المناسبة عينها وتحت الشعار نفسه "طوبى لصانعي السلام"، ظهر بوضوح أنّ مشكلة لبنان لا تكمن في غياب التعابير المُنمّقة، بل في عجزه المزمن عن قراءة الأزمنة التي يُعايشها.
قدّم الرئيس جوزاف عون نصاً مُتقناً من حيث البلاغة التقليدية: لبنان "أرض كنعانية راجية شفاء أبنائها"، و"وطن الحريّة والكرامة"، و"بلد القدّيسين" و"رسالة" و"نموذج العيش المشترك" الذي إن سقط "لن يكون هناك مكان آخر على الأرض يصلح له". أعاد الرئيس صياغة كل المفردات التي أحبّتها الطبقة السياسية منذ عقود: من عبارة يوحنا بولس الثاني الشهيرة عن لبنان: "لبنان أكثر من وطن، إنّه رسالة"، إلى معادلة التوازن العددي بين المسلمين والمسيحيين، إلى التحذير من أنّ سقوط أحد المُكوّنين يعني سقوط العدالة والاعتدال.
هذا الخطاب يصلح تماماً لافتتاح مؤتمر حول "حوار الأديان والحضارات"، أو لسيناريو فيلم ترويجي لوزارة السياحة، لكنّه يقلّ إلى حدّ كبير عن مستوى المحطة التاريخية السياسية. لبنان الذي يخاطب البابا اليوم ليس لبنان التسعينيات ولا لبنان ما قبل الانهيار، بل إنّه دولة مفكّكة، مؤسساتها شبه معطّلة، سيادتها مُنتهكة، ومجتمعها يشهد نزيفاً مستداماً نحو الهجرة. ومع ذلك، يفضّل الخطاب الرسمي أن يطرح لبنان كفكرة مجرّدة، كأيقونة معلّقة على الحائط، لا ككيان سياسي مأزوم يحتاج إلى مصارحة شجاعة.
والأخطر من ذلك أنّ هذه السردية التي تميّزت بالصور البيانية والبديعية حول "لبنان الجميل" تبعد كل البعد من الغاية الجوهرية لزيارة عنوانها "طوبى لصانعي السلام"! فمن يُعطّل السلام في هذه البلاد؟
لقد رفع رئيس البلاد لبنان إلى مرتبة "الشهادة" و"الرسالة" و"الأرض المقدسة"، لكنّه تجنّب تسمية القوى التي حوّلت هذا الوطن نفسه إلى ساحة صراع بالوكالة، وإلى خط تماس دائم بين محاور خارجية، وإلى ميدان للسلاح غير الشرعي والاقتصاد المافياوي. كلمة الرئيس جعلت من السلام قيمة روحية وأخلاقية، وليس مهمّة سياسية محدّدة بأسماء ووقائع ومساءلات.
في المقابل، جاء خطاب البابا ليحطّم هذا الغلاف البلاغي. هذا الرجل الذي ليس بصدد مجاملة أحد في بيروت، تحدّث بلغة تبدو للوهلة الأولى روحية، لكنها تحمل في مضمونها رسالات سياسية أكثر من كل ما قيل على المنبر الرسمي. عرّف البابا السلام بأنّه "رغبة ودعوة، وعطيّة وعمل جارٍ"، أي أنّه ليس حالة ميتافيزيقية بل مسار يتطلّب إرادة ومؤسسات وقراراً. لقد ذكّر المسؤولين بأنّ مهمّتهم لا تنحصر في حفظ الشعارات، بل تتجسّد في وضع "هدف السلام فوق كل شيء آخر"، وطالبهم باستعمال "لغة الأمل" كمشروع يواجه اقتصاد "القتل" و"استقطاب التطرف" و"الشعور السائد بالعجز"، لا كشعارات رنانة.
إنّ هذا التباين بين لهجة تُصرّ على التصريح بأنّ لبنان "باقٍ لأنّه رسالة"، وأخرى تتساءل عن مصدر "هذه الطاقة التي تضخّ الأمل في روح الشعب"، ومن ثمّ تربط تلك الطاقة مباشرة بدور المجتمع المدني والشباب والنساء والمؤسسات، يُظهر الفجوة الحقيقية. أعاد الرئيس تثبيت الأسطورة القديمة: إذا سقط المسيحي سقطت المعادلة، وإذا سقط المسلم اختلّ الاعتدال. أمّا البابا فذهب إلى أبعد من ذلك: إذ أعلن أنّ الحقيقة لا تُحتكر، وأنّ كل جماعة تُعنى بجزء منها، وأنّ المصالحة والسلام لا يقومان إلّا على الاعتراف المتبادل، وعلى تفضيل "الصالح العام" على مصالح الطوائف والأحزاب.
بنى الرئيس خطابه على معادلة أبدية ثابتة: يجب الحفاظ على لبنان كما هو لأنّ لا بديل له في العالم. في المقابل، أشار البابا من جديد إلى أنّ بقاء لبنان لا يمرّ بتقديس "التركيبة" بل بإصلاحها؛ وأنّ هجرة الشباب ليست خيانة للرسالة، بل هي نتيجة طبيعية لأعمال العنف والفقر، مما يدفعهم إلى البحث عن ملجأ في موطن آخر. ومن ثمّ دعا بوضوح إلى وضع شروط تجعلهم "لا يطلبون السلام في مكان آخر، بل يصبحون صانعي سلام في وطنهم".
المفارقة أنّ الخطاب الأقرب إلى "اللاهوت" جاء من ممثل الكنيسة، لكنه كان في الواقع أكثر التصاقاً بالسياسة وبموازين القوى والاقتصاد والهجرة ودور الدولة. أمّا الخطاب "السياسي" الرسمي فبدا أقرب إلى عظة ليتورجية ممتدّة، تحتمي بالتاريخ المقدس وبصور العذراء والقديسين لتفادي الحديث عن حاضر يزداد قتامة. هذه المشكلة لا تكمن في أسلوب اللغة والصياغة فقط، بل إنها مشكلة ذهنية: ذهنية طبقة حاكمة لم تستوعب بعد أنّ لبنان الذي تتغنّى به كـ"رسالة" يكاد يتحوّل في نظر أبنائه إلى "تحذير".
اللبنانيون الذين يخاطبهم البابا اليوم ليسوا فقط "أبناء الحريّة" بل ضحايا سلطة عاجزة، ونظام طائفي صار أداة بيد السلاح والمال الفاسد. حين يطلب منهم البابا أن يتحلّوا بـ"جرأة الصمود والعودة"، فهو يضع أصابع يده على جرح لم يجرؤ الخطاب الرسمي عليه: هذا الوطن لن يبنيه الادّعاء بأنّ "ما يجمعه لبنان لا يسعه مكان آخر على الأرض"، بل يبنيه إقرار صريح بأنّ من يحتكر قرار الحرب والسلم، ومن يهيمن على الحدود والاقتصاد، هو من يصنع الخراب، وأنّ وظيفة الدولة ليست مديح ذاتها، بل فرض سيادتها على الجميع بلا استثناء.
من حق الرئيس أن يفاخر بتاريخ لبنان الكنسي والروحي، لكن من واجبه قبل ذلك أن يلتقط اللحظة التي يقدّمها خطاب بابوي واضح ومباشر: لا سلام بلا مصالحة، ولا مصالحة بلا حقيقة وعدالة، ولا عدالة بلا دولة تتفرّد بقرارها لمصلحة مواطنيها. هذا ما أدلى به البابا مستنداً إلى لغة دبلوماسية هادئة، فيما أصرّ الخطاب اللبناني على الاحتماء ببلاغة "النموذج" و"الرسالة".
لن تُغيّر زيارة البابا وجه لبنان بين ليلة وضحاها، لكنها قد تُبدّل طريقة قراءة اللبنانيين لأنفسهم. يتأرجح الخيار اليوم بين لغتين: لغة تستمرّ في تكرار ليتورجيا "لبنان الرسالة" فيما السفينة مثقوبة تتسرّب منها المياه من كل صوب، ولغة أخرى تُصرّ على أنّ السلام عمل يومي شاق، يبدأ بالاعتراف بالجرح قبل رفعه إلى مرتبة القداسة.
إذا أراد لبنان أن يبقى حقاً أرض "طوبى لصانعي السلام"، فعليه أوّلاً أن يُقرّ بأنّ صناعة السلام لا تبدأ من الخطابات التي تتفلّت من السياسة، بل من السياسة الشجاعة التي لا تهاب تسمية الأشياء بأسمائها.


