كتبت الفيلسوفة آنا ماريا ماتوتي ذات يوم جملة تبدو بريئة لكنها في الحقيقة مُفخخة وجودياً: "لم أكن أتخيّل أبداً أن الغياب سيشغل مساحة كبيرة." وهي جملة لو فكّر فيها المرء قليلاً لاضطرّ إلى شراء خريطة جديدة للعالم، لأن الخرائط القديمة لم تُرسم فيها بلدان الغياب، وهي مساحات شاسعة، لا تقل عن قارات بأكملها.
من منظور فيزيائي – عاطفي (وهو علم لم يعترف به أحد رسمياً بعد، بالرغم من انتشاره)، يمكن القول إن مساحة الغياب تتناسب عكسياً مع المساحة التي كان يشغلها حضور الشخص في حياتنا. وكلما كان وجوده مركزياً، تمدّد غيابه كعجينة بيتزا سيئة الإعداد.
إنه ذلك الفراغ المصنوع خصيصاً لنا، والذي لا يشعر به إلا من عرف حضوراً حقيقياً. فالمرء لا يفتقد المقعد الخالي في مقهى لم يجلس فيه، بل يفتقد المقعد الذي كان يجلس عليه شخص أصبح اليوم مادة روائية صالحة للحزن.
إذن الحضور والغياب ليسا ضدّين، بل زوجاً فلسفياً متناغماً: وجود وظل، امتلاء وفراغ، حياة وقصيدة رثاء. حتى إن الغياب، بهذا المعنى، ليس نقيض الحضور، بل امتداده بوسائل أخرى.
الحب الرومانسي — ذاك الكائن الساخر الذي يعدك بالخلود ثم يختفي فجأة — يجعل الغياب أشبه ما يكون بـ"متلازمة الانقطاع". الحبيب يمضي، والمخ يعتمد على جرعاته السابقة.
في العلاقات المستقرة لا يعود الحدث عاصفاً، بل متشبثاً بروتينه اليومي: كوب القهوة الذي كان له صاحب، ظلّ الخطوات في الردهة، الجملة التي كان يكررها الشخص الذي غاب. هنا يصبح الغياب عادياً، وهذا تحديداً ما يجعله مؤذياً.
يتطلّب التخلص من هذا الإدمان مهارات غير متوفرة في دليل الاستخدام البشري. فالاعتياد على الوحدة فنّ صعب، يحتاج تمريناً نفسياً شاقاً، ولا يتقنه إلا من مارس رياضة "التجرد" لسنوات.
وفوق ذلك، يأتي الحنين — ذلك السوط الثقيل — ليخبرك بأن الماضي كان كاملاً، وأنك أنت الذي لم يدرك ذلك.
في الشيخوخة: حين يسقط عمود الحياة فجأة، أكثر أنواع الغياب إيلاماً هو غياب الشريك بعد عقود من التعايش.
أنت لا تفقد شخصاً هنا، أنت تفقد نسختك المشتركة مع العالم. من اعتاد الآخر وروحه وصوته اليومي، يصبح فقدانه انهياراً بنيوياً. الأنا تصبح هشّة، والذهن يترنّح مثل عود قصب في مهبّ الريح.
الأمر لا يتعلق بالحب فقط، بل بـ"تعريف الذات": من أنا بدون من كان معي نصف قرن؟ هنا يصبح الغياب مساحة تُقاس لا بالمتر، بل بـ"عدد الأيام التي تُعاد دون وجهة".
أمّا الغياب الذي يصنع حفرة سوداء حقيقية فهو غياب الأم، خصوصاً حين لا يكون الطفل قد بلغ ما يكفي ليخترع أسطورته الخاصة عنها. الأم ليست مجرد حضور، بل هي البنية التحتية الوجودية للكائن الصغير.
يختفي الجدار الأول الذي استند إليه الطفل في الوجود. أي فراغٍ هذا يمكن قياسه؟ وكيف يُرمّم؟
الجواب الفلسفي: لا يُرمّم.
والجواب النفسي: يُتعايش معه.
والجواب الساخر: يُوضَع في صندوق خشبي طويل مع بقية صدمات الطفولة التي ستُناقش لاحقاً مع معالج نفسي.
غياب الناس، أم غيابنا نحن؟ للوهلة الأولى يبدو أن الغياب هو فراغ تركه الآخر.
لكن الكثير من المدارس الفلسفية — من مركيز إلى بودريار — تربت على كتفك وتخبرك أن الأمر ليس بهذه البساطة.
فالغياب في كثير من الحالات ليس نقصاً في الآخر، بل نقصاً في نسختنا من أنفسنا التي كانت تتشكّل بوجوده. نحن نفتقد "أنفسنا كما كنّا معه"، لا الشخص نفسه.
وهي مفارقة لطيفة ومؤلمة في آن واحد. الإنسان، كما قال أرسطو، كائن اجتماعي، أي كائن محكوم بالخسائر. الحياة تمنحنا الحضور فقط كي تسحبه لاحقاً. والعالم، بكل عبقريته الكونية، قائم على قانون بسيط: خذ ما تحب… ثم استعد لدفع الثمن.
لذا فالغياب يشغل أكبر المساحات، لأنه مكوّن أساسي من التجربة الإنسانية. نحن نغيّب ونُغَيَّب، نفقد ونُفقد، ونتعلم الوقوف بعد كل سقوط، لا حباً في الوقوف، بل لأن الأرض قاسية ولا رغبة لنا في النوم على البلاط.
الغياب ليس حدثاً طارئاً، بل قانون وجود. ليس مساحة تُقاس، بل مساحة تبتلع. لكن بالرغم من قسوته، هو ما يدفعنا إلى إعادة تشكيل ذواتنا، إلى ترميم ما يمكن ترميمه، وإلى الانحناء أمام الحقيقة الكبرى: أن الإنسان كائن يتقن التكيّف، لأنها حرفته الوحيدة التي لا تفشل.
وهكذا نفهم جملة "ماتوتي" على حقيقتها: لم يكن الغياب يشغل مساحة كبيرة، بل كان يسكن فينا، ويعيد توزيع جدراننا الداخلية كما يشاء.


