: آخر تحديث

هندسة القوة الجديدة: صعود «القطب السعودي» في عالم مضطرب

1
1
1

يشهد العالم اليوم لحظة إعادة توزيع حادة لموازين القوة. فالنظام الدولي لم يعد محكوماً بقطب واحد، ولا بميزان تقليدي بين «المعسكرين»، بل بات يعيش تعددية مركّبة تتداخل فيها الجغرافيا مع الاقتصاد، والطاقة مع التكنولوجيا، والهوية مع الأمن. وفي خضم هذا التحول العميق، يبرز اسم واحد بوضوح لافت: المملكة العربية السعودية.

لسنوات طويلة، كان يُنظر إلى الرياض باعتبارها «قوة إقليمية» وازنة، لكنها تجاوزت هذا التصنيف خلال أقل من عقد. فالسعودية اليوم دولة قطب تمتلك قدرة متنامية على التأثير في شكل التوازنات العالمية، وتشكل محطة مركزية للقوى الكبرى الباحثة عن الاستقرار، والأمن الطاقي، والشراكات الاقتصادية المستدامة.

هذا الصعود لم يكن وليد المصادفة، بل نتيجة هندسة استراتيجية دقيقة ارتكزت على ثلاثة أعمدة كبرى.

العنصر الأول هو رؤية 2030 التي تجاوزت حدود كونها برنامجاً اقتصادياً، لتتحول إلى مشروع شامل لإعادة تعريف وظيفة الدولة، وصياغة نموذج تنموي يدمج بين القيم الراسخة والحداثة الرقمية. أصبحت المملكة، بفضل هذا التحول، مختبراً عالمياً لحوكمة المستقبل، ومركزاً لصناعة السياسات التي تراعي معادلات القرن الحادي والعشرين.

العنصر الثاني هو القوة الاستثمارية السعودية، ممثلةً في صندوق الاستثمارات العامة الذي تحول إلى لاعب جيوسياسي عابر للقارات. من طوكيو إلى نيويورك، ومن أوروبا إلى آسيا الوسطى، باتت استثمارات الصندوق جزءاً من سلاسل القيمة العالمية، تمنح السعودية ثقلاً اقتصادياً واستراتيجياً يصعب تجاهله.

أما العنصر الثالث فهو الدبلوماسية القائمة على «الاستقلالية الاستراتيجية النشطة». فمن خلال بناء شراكات متوازنة مع واشنطن وبكين وموسكو وبروكسل، استطاعت الرياض أن تتجنب فخ الاصطفاف التقليدي الذي يحد من خيارات الدول. هذا التوازن لم يمنحها فقط مساحة مناورة واسعة، بل عزز صورتها كفاعل موثوق قادر على تخفيف توترات العالم في لحظات حرجة.

وقد تجلّى «القطب السعودي» بأوضح صوره في قدرة المملكة على ممارسة الوساطة الهادئة في ملفات معقدة: من خفض التوترات الإقليمية في محيطها المباشر، إلى دورها الإنساني والسياسي في الأزمة الأوكرانية، مروراً بإدارة أسواق الطاقة العالمية بمسؤولية مكّنت العالم من عبور تقلبات غير مسبوقة.

هذه التحركات جعلت من السعودية قاطرة لصوت الجنوب العالمي، وقوة توازن إيجابية تسعى لتعزيز التنمية العادلة بعيداً عن صراعات النفوذ التي أنهكت النظام الدولي.

وفي عالم يسوده التنافس غير الصفري، لم تعد المملكة تكتفي بالتفاعل مع الأحداث، بل أصبحت تصنع مسارها ومسار محيطها. وهذا هو المعنى الحقيقي لمفهوم «القطب»: دولة تمتلك القدرة على التأثير، والاستقلال في القرار، وصياغة المعادلات بما يخدم استقرار النظام الدولي وازدهارها الداخلي.

إنَّ ما يشهده العالم اليوم ليس مجرد صعود دولة، بل ميلاد مركز ثقل جديد سيبقى دوره حاسماً في هندسة شكل المستقبل — وتلك هي اللحظة السعودية بامتياز.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.