: آخر تحديث

ليفربول.. حكاية النصر

1
1
2

في مساءٍ مَهيب على مسرح "أنفيلد"، لم يكن الفوز مجرد انتصارٍ رياضيّ يُسجّل في دفاتر الإحصاء، بل كان استعادةً لصوت الحياة الذي ظلّ ينتظر موسمه ليصدح من جديد.

تُوّج ليفربول بطلاً للدوري الإنجليزي الممتاز للمرة العشرين في تاريخه، معادلاً الرقم الذهبي لغريمه مانشستر يونايتد، لكن هذا التتويج كان أبعد من رقم، وأعمق من لقب؛ كان ولادةً جديدة لروح مدينةٍ تعلّمت أن لا تسير وحدها أبداً.

لم تكن المباراة أمام توتنهام، التي انتهت بخماسيةٍ ساحرة مقابل هدفٍ يتيم، مجرد عرض كروي؛ كانت مسرحيةً كبرى عَزف أبطالها سيمفونية فرحٍ منسوجة بخيوط الكفاح، موقّعة بأسماء من ذهب: دياز، ماك أليستر، خاكبو، وصلاح الذي أنهى صيامه التهديفي بلقطة خلدها مع أحد المشجعين في صورةٍ تفيض بالمعنى والامتنان.

في لحظةٍ خاطفة، التحم العشب الأخضر بالسماء، وتلاشى الخط الفاصل بين البسطاء في المدرجات والنجوم على الميدان؛ كلهم باتوا نغمة واحدة في نشيد "لن تسير وحدك أبداً" الذي اخترق الأزمنة، مجسداً أن الفرح حين يولد من رحم الألم يصبح أكثر نقاءً.

خمس سنوات مضت منذ آخر تتويج، لكنه كان تتويجاً صامتاً، مبتور الفرح بسبب جائحة عزلت القلوب خلف شاشات باردة. واليوم، جاء المشهد معافى، متوهجاً، كأن المدينة كلها نفضت عنها غبار الحزن ونطقت من أعماقها: الحياة حياة.

ترك أرنه سلوت، المدرب الهولندي الذي تسلّم الشعلة من يورغن كلوب، كل ادعاءٍ بالبطولة الشخصية جانباً، واختار أن يرفع تحيةً للذين مهّدوا الطريق قبل أن يمشيه. هكذا تتجلى عظمة المنتصرين: بتواضعهم في لحظة العظمة، وإدراكهم أن النصر جماعيٌّ دائماً، مهما كانت الموهبة فردية.

وعلى هامش الفرح، تلألأت نجومية محمد صلاح أكثر من أي وقت مضى. نجمٌ صاغ مجده بقدمه اليسرى الماكرة، يراوغ بها الزمن قبل المدافعين، ويثبت أن العبقرية الحقيقية ليست أن تفعل شيئاً جديداً كل مرة، بل أن تتقن ذات الشيء حتى يستحيل منيعاً أمام كل محاولات الإيقاف.

صلاح، الذي منحته الصحف الدرجة الكاملة، لم يكن مجرد هداف؛ كان قصةً مكتوبة بلغة الطموح والإبداع، قصةً جعلت الملايين من مصر والعالم العربي يشعرون أن الحلم – مهما بدا بعيداً – يمكن أن يُمسك يوماً باليد.

في هذا المشهد الاستثنائي، لم يحتفل ليفربول فقط بكأس الدوري، بل احتفل بقيمته الأعمق: الوفاء، الصبر، الوحدة، والشغف. لم تكن الجماهير تحتفل بفوزٍ عابر، بل بانتصار حكايةٍ بدأت منذ عقود ولم تفقد وهجها بالرغم من الخيبات.

تتويج ليفربول بطلاً للدوري الإنجليزي الممتاز لموسم 2024–2025 لا يُعد مجرد انتصار رياضي عابر، بل يحمل دلالات تاريخية وثقافية ورياضية بالغة العمق، سواء داخل إنجلترا أو على مستوى الكرة العالمية.

تتوّيج ليفربول بلقبه العشرين في تاريخ الدوري الإنجليزي، ما يعني أنه عادل الرقم القياسي لعدد الألقاب الذي كان يحتفظ به مانشستر يونايتد (20 لقباً)، وهو إنجاز يُعيد التوازن التاريخي بين الغريمين التقليديين، واستعاد الهيبة التاريخية للنادي، الذي كان مهيمناً على الكرة الإنجليزية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تذهب السيطرة لليونايتد في عصر السير أليكس فيرغسون. أضف إلى أن التتويج جاء في وقت يشهد تحولات في هوية ليفربول، مع رحيل المدرب الأسطوري يورغن كلوب، وتسلُّم المدرب الهولندي آرني سلوت المهمة. فضلاً عن حسم اللقب قبل 4 جولات من النهاية، وبفوز كبير على توتنهام 5-1، يرمز إلى قوة شخصية الفريق واستقراره التكتيكي والذهني.

اللقب يعزز شعور الانتماء والفخر لدى وفاء جماهير "الريدز" التي دعّمت فريقها في السنوات العجاف، وها هو الفريق يكافئها بإنجاز يمسّ جذور الهوية.

يُشكّل ضغوطاً على مانشستر يونايتد الذي لم يحرز لقب الدوري منذ 2013، ويُنهي انفراده بزعامة الكرة الإنجليزية من حيث عدد البطولات. ناهيك عن أنه يُعيد رسم خريطة المنافسة، خصوصاً في ظل تفوّق مانشستر سيتي في السنوات الأخيرة، ما يُنعش أجواء البريميرليغ بمزيد من التحدي.

الفوز على توتنهام بخماسية في أنفيلد، يعكس القوة الهجومية لليفربول، واستمراره في تقديم كرة قدم ممتعة. وهذا النجاح يُبرز الدور الحاسم لبعض النجوم مثل محمد صلاح، الذي واصل تحطيم الأرقام القياسية وتعزيز مكانته في سجل أساطير النادي.

تتويج ليفربول بلقبه العشرين لا يعني فقط تحقيق بطولة، بل يُجسّد لحظة من التحول التاريخي، يعيد فيها النادي بناء نفسه، ويُرسّخ حضوره بين كبار أوروبا، ويبعث رسالة بأن الأحمر لا يزال قادرًا على العودة، وأن المجد لا يموت، بل قد ينام... ليستفيق في وقته.

هكذا رسم ليفربول ملحمته هذا الموسم: خمسية تزين الذاكرة، أناشيد تعانق الأرواح، ودموعٌ امتزجت بالضحكات على وجوه اللاعبين والجماهير.

في كرة القدم كما في الحياة، ليس الانتصار مكافأةً للموهبة وحدها، بل للقلوب التي لا تيأس، وللأرواح التي تعرف كيف تهتف للحلم حتى آخر رمق.

ليفربول اليوم، لم يتوج بلقب فقط؛ لقد علّمنا أن الفرح الحقيقي يُنتزع من قلب الصبر، وأن من يغني للفرح، لن يسير وحده أبداً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.