لا أنكر فضل الصديق الكاتب والصحافي الزميل الراحل تركي رمضان عليّ، وهو الذي كان بالنسبة إليّ اليد الطولى في تشجيعي ودفعي إلى عالم الصحافة، الذي أعشقه، وأوليه محبةً خالصة، لا قبلها ولا بعدها، وكان بالنسبة إليّ الرابط القوي الذي مكّنني من الولوج إلى هذا الباب، الذي كنت أفضّله على غيره، مع بدايات العمر الذي يمضي مسرعًا، وها هو اليوم يتخطّى عتبة الخمسين ربيعًا، غير مصدّقين أننا بدأنا نسير في طريق الشيخوخة، لا حبًّا بها ولا كرهًا، وإنما هو قدرنا الذي يتربّص بنا، كما هو قدر غيرنا من الشباب الصحافيين وغيرهم ممّن عايشناهم من أبناء جيلنا، وها هم اليوم بدأوا بالعدّ التنازلي، وفي انتظار الساعة الصفر، والعودة بين فترة وأخرى إلى تذكّر أيّام العمر الذي انقضى ومضى ولم نشعر به، فأصبح اليوم جزءًا من ماضٍ جميل، وزمنٍ أجمل.
والصديق الزميل تركي رمضان، طيّب الله ثراه، أسّس في عام 1991 مكتب صحيفة "البعث" في مدينة الرقة، وطلب من الزملاء الراغبين في العمل الصحافي الانضمام إلى المكتب كمراسلين صحافيين، وكنت من بينهم، وهو من كان يوجّههم ويقوّم اعوجاجهم، وكان لتأسيس المكتب قصة أخرى. وشاءت الظروف في حينها أن تقوم الرقة بالتحضير لاحتضان مهرجان البادية الأول بإشراف وزارة الثقافة، وقبل إقامة المهرجان بحوالي شهر، بدأت المحافظة بالتحضير له، بعقد الاجتماعات الدورية للمديرين المعنيين مع المحافظ، لتوفير الإمكانات اللازمة وتذليل الصعاب إن وُجدت، ويجهد الشباب لإنجاحه باعتباره المهرجان الأول، والرقة وأهلها جديرون باحتضانه وافتتاحه على أرض مدينة الرصافة الأثرية، التي تتوسط بادية ناحية المنصورة، التي تبعد عن الرقة حوالى 40 كيلومترًا باتجاه الجنوب، وقد شُيّدت فوق منطقة تضمّ بعض المرتفعات، ويرى الناظر عندما يُطلّ من خرائبها فضاءً منبسطًا لا تحدّه سوى خطوط الأفق البعيد.
وقد نجحت الرقة في احتضانه، وإن تعثّر في يومه الأول بسبب أحوال الطقس السيئة، والأمطار والعواصف الغبارية التي رافقته قبل البدء به في أرض مدينة الرصافة، ولم تُتح للحضور الجماهيري الغفير متابعته، ما دعا الأغلبية منهم إلى الفرار بسياراتهم هربًا حفاظًا على أرواحهم من الحال التي خلّفتها الرياح العاتية والأمطار الغزيرة التي صاحبته، ما دفع الحاضرين إلى الإسراع في الهرب إلى منازلهم، وهذا ما أفسد على الجماهير الغفيرة مغادرة ساحة الاحتفال بالمهرجان، الذي لم يكتمل مع هبوب العواصف الترابية، والتي تنجم عادة عن العواصف الرعدية، وهذه الرياح القوية تحمل كميات كبيرة من الرمال والأتربة من الأراضي الجرداء والقاحلة إلى الغلاف الجوي، وكانت ساعة نذير شؤم، لم تُسرّ عدوًا ولا صديقًا.
وكنت والزميل تركي رمضان، وبعض الزملاء الصحافيين العاملين في الرقة، نفيق مع ساعات الصباح الأولى ونركب سيارة اللاندروفر الحكومية التي أكل عليها الزمان وشرب، بصورة يومية، وعلى مدار أسبوع، باتجاه ريف الرقة الجنوبي، للاطلاع على واقع الحياة في تلك الأماكن الريفية البدوية التي تخلو من الحياة تمامًا، والتي تبعد عن المدينة أكثر من مئة وعشرين كيلومترًا. وهناك كانت لنا وقفات مع أهالي قرى: "حزوم"، "الزملة"، "بير رحوم"، "رجم العجوز"، "خربة الحالول"، وغيرها من القرى المتناثرة التي يقطنها العديد من العشائر العربية الأصيلة، ومن بينها عشيرة "البوخميس" المنحدرة من قبيلة الدليم العراقية. ويغلب على حياة الأهالي، الذين يستوطنون المنطقة، طابع البداوة، ولا سيما أنهم يعيشون في أماكن شبه متعثّرة، وبعضها تغازلها الرمال بصورة دائمة، ما يجعل معالمها تبدو غير واضحة، بالرغم من أن الحكومة ساهمت في استقرارهم، وإيصال بعض الخدمات البسيطة إلى تلك القرى، فضلاً عن السماح لهم بحفر الآبار الارتوازية للاستفادة منها في ريّ مواشيهم، وهي مورد رزقهم الوحيد. أضف إلى ذلك أن بعضهم باتوا يملكون سيارات "بيك آب" زراعية، والبعض الآخر يملكون وسائط نقل زراعية كالجرارات، التي تُستخدم في حراثة الأرض، وفي نقل صهاريج المياه، وفي حمل أغراضهم أثناء الترحال من مكان لآخر.
في الواقع، ما لمسناه في زياراتنا اليومية إلى الريف الجنوبي لمدينة الرصافة الأثرية التي تزيّن بادية المنصورة، يكاد يشكّل غرابة حقيقية بالنسبة إلينا نحن أبناء المدينة، الذين لم يسبق أن عشنا هذه الأجواء القاسية، والحياة الصعبة التي تخلو من مقوّمات الحياة الإيجابية، ومن حقّ الناس الذين يعيشون فيها أن يتمتّعوا بها. ومن الطبيعي أنهم تعوّدوا عليها، فصارت جزءًا منهم، ما يعني أن زياراتهم لريف مدينة المنصورة القريبة، التي تبعد عن الرقة نحو ثلاثين كيلومترًا، تكاد تكون محطّتهم التي يتسوّقون منها بضائعهم وحاجياتهم الضرورية، التي تساعدهم على التمسّك بتلك الأراضي التي أصبحت بالنسبة إليهم حياة طبيعية، والعيش فيها ليس مستغربًا لأنها صارت جزءًا منهم.
زيارات القرى المتناثرة القريبة من الرصافة، التي تقع وسط البادية وما حولها، والبعيدة عنها، كنّا قد لمسنا فيها حياة جافّة مُعدَمة من كل شيء، إلّا من الأهالي الذين يعيشون فيها واستوطنوها منذ أعوام خلت، وتظلّ بالنسبة إليهم هي الأمل بالحياة. وما زال أغلب الأهالي الذين يعيشون فيها يعتمدون على ما تنتجه أراضيهم الزراعية الخصبة من القمح والقطن والخضروات، التي ساهمت الآبار الارتوازية التي حُفرت بموافقة الحكومة في تحويل تلك الأراضي البور إلى أراضٍ خصبة بامتياز، وتُقدَّر عائداتها السنوية بمليارات الليرات السورية، فضلاً عن اهتمامهم بتربية الماشية، ولا سيما الجمال، سفينة الصحراء.
الفترة التي كنّا نقضيها مع الزميلين تركي رمضان، ومحمد جاسم الحميدي، طيب الله ثراه، الصحافي والأديب، المشهود له بأخلاقه العالية ودفء مشاعره وبساطته، إضافة إلى رفقة بعض الزملاء، كانت أيّامًا حقيقية لا تُنسى. وما كان من الزميل أبي فراس إلّا أن يسجّل بقلمه الرائع صورًا بديعة عن الحياة في ريف الرقة الجميل، ويبعث بها إلى صحيفة "الثورة" السورية، التي تنشر ما يُرسل تباعًا في صفحة البيئة الأسبوعية. كما توقّف الزميل تركي رمضان بكتابة لوحة صحافية جميلة عن الحياة في تلك البادية، وحواره مع الأهالي البسطاء هناك، ونشر في صحيفة يراسلها مادة لافتة بعنوان: "أهلاً بالضيوف"، تصوّر مدى اهتمام أهلنا في ريف الرقة الجنوبي، بالرغم من حياة البؤس والشقاء التي يعيشونها، إلّا أنهم ما زالوا يحملون طبائع وصفات الكرم والوفاء التي لا تزال تطبع حياتهم بألوان من العشق لحياة البادية، التي يرون فيها تاريخهم ومستقبلهم، وظلّوا مصمّمين على التمسّك بها، بالرغم من المعاناة، والإهمال الكبير الذي يعيشونه من قبل الحكومة، التي لم توفّر لهم أدنى مقوّمات الحياة الكريمة. وتحمّلوا، وعلى مضض، جور المعاناة ومشاقّ الحياة الكئيبة، أكثر مع غياب ضرورات الحياة البسيطة، التي لو توفّرت، لأسهمت في تمسّكهم بالمكان الذي وُلدوا وعاشوا فيه. إلّا أن بعضهم فضّل مغادرة المكان، والرحيل باتجاه دول الخليج، هربًا من واقع مرير، وحياة يُغلفها الفقر والعوز، في ظلّ غياب أبسط مقوّماتها الرئيسية، التي يحتاجها ابن البادية، الذي ظلّ يعاني الأمرّين، وما زال!