في ظل الأجواء المشحونة التي تعيشها مدينة القدس عادة، جاءت الأيام الأخيرة من شهر رمضان لترسم صورة مختلفة، وإن كانت مؤقتة، لواقع المسجد الأقصى وساحاته. فخلال الأسبوع الأخير من الشهر الفضيل، تنفّس المقدسيون والفلسطينيون هواءً نقيًا من الروحانية والهدوء، بعيدًا عن التدخلات الأمنية والمواجهات التي اعتادوا عليها. لقد تحوّل الأقصى، ولو لأيام قليلة، إلى مساحة حقيقية للعبادة والتأمل، حيث توافدت أعداد غفيرة من المصلين، تجاوزت مئات الآلاف، في مشهد يعيد إلى الأذهان هيبة المكان وقدسيته بعيدًا عن صراعات السياسة. لكن هذا الهدوء النادر لم يدم طويلاً، حيث عمد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير إلى كسر هذه الأجواء بقيادته اقتحامًا استفزازيًا للمسجد الأقصى صباح الأربعاء.
وكانت ليلة السابع والعشرين من رمضان محطة فارقة هذا العام، حيث اجتمع ما يقارب 180 ألف مصلٍّ في ساحات الأقصى وقبّته، في صلاة جماعية مهيبة. لم تكن الأعداد الكبيرة فقط هي ما أثار الانتباه، بل الغياب الملحوظ لأي توترات أمنية أو تدخلات قوات الاحتلال، مما سمح للمصلين بأداء صلواتهم بخشوع كامل.
إقرأ أيضاً: السلطة الفلسطينية وتحديات الضفة الغربية
ولم تقتصر الأجواء الهادئة على ليلة القدر فحسب، بل امتدّت إلى العشر الأواخر من رمضان، حيث شهد الأقصى زخمًا غير مسبوق من المصلين المعتكفين، الذين قضوا أيامًا وليالي بين صلاة وذكر وتدبّر. كثيرون منهم لم يغادروا المسجد إلا للضرورة، في مشهد يذكّر بالأزمنة التي كان الأقصى فيها منارة علمية ودينية بلا حواجز أو قيود.
هذا الهدوء النادر لم يكن صدفة، بل نتاج ترتيبات أمنية وسياسية معقّدة، ربما أرادت فيها الأطراف المختلفة تجنّب تصعيد ديني في شهر يحمل حساسية خاصة. لكن الأهم من ذلك هو أن الفلسطينيين استطاعوا، ولو لليلة واحدة، أن يعيدوا للأقصى شيئًا من هيبته كبيت للعبادة لا ساحة صراع.
ويمكن تفسير الهدوء النسبي الذي شهده المسجد الأقصى في نهاية رمضان بعدة عوامل رئيسية: أولًا، الحسابات السياسية الإسرائيلية التي رغبت في تجنب أي مواجهات خلال الشهر الفضيل، خاصةً في ظل الضغوط الدولية المتصاعدة بسبب الحرب على غزة، حيث كان أي تصعيد في القدس سيفتح جبهة جديدة مكلفة سياسيًا. ثانيًا، تركيز الجهود الأمنية الإسرائيلية على جبهة غزة، مما جعل افتتاح جبهة ثانية في القدس غير مجدٍ في هذه المرحلة. ثالثًا، الضغط الشعبي الفلسطيني المتمثل في الإصرار المقدسي على أداء الصلوات بأعداد كبيرة، مما جعل أي تدخل أمني محتملاً مكلفًا على المستويين الإعلامي والسياسي.
إقرأ أيضاً: الدور العربي في غزة
فالمشهد الذي شهده الأقصى في الأيام الأخيرة من رمضان يثبت أن القدس يمكن أن تكون مدينةً طبيعيةً عندما تُرفع الأيدي عنها. فالمصلون، سواء من القدس أو الداخل الفلسطيني، لم يأتوا ليثيروا المشاكل، بل جاءوا للعبادة فقط. وهذا يطرح سؤالًا جوهريًا: ماذا لو تُرك الأقصى بلا قيود أمنية؟ هل سيبقى هادئًا؟ التجربة الأخيرة تقول نعم.
لم يكن مشهد عشرات الآلاف من المصلين وهم يملؤون ساحات الأقصى في ليلة السابع والعشرين من رمضان مجرد صلاة عابرة، بل كان رسالة واضحة: القدس عربية إسلامية، وقادرون على حمايتها بالصمود لا بالشعارات. لكن إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف، قرر كسر حالة الهدوء وأراد اليوم أن يمحو هذه الصورة بقدميه المدنستين، فقاد مجموعة من المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى تحت حراسة الشرطة، وكأنه يعلن بكل وقاحة: "الهدنة انتهت، والعنف هو لغتنا الوحيدة".
إقرأ أيضاً: حماس تدفع غزة نحو جولة صراع جديدة
فرغم الأجواء الإيجابية التي سادت نهاية رمضان، فإن اقتحام بن غفير اليوم يُذكّر بأن الاحتلال لا يزال ينظر إلى الأقصى كساحة صراع، وليس مكانًا للعبادة فقط. فالتاريخ يشير إلى أن مثل هذه الاقتحامات، خاصة بقيادة شخصيات متطرفة مثل بن غفير، قد تكون شرارة لإشعال مواجهات جديدة، خصوصًا مع استمرار حالة الغليان في الضفة الغربية وغزة.