: آخر تحديث

الناسخ والمنسوخ

26
23
19
مواضيع ذات صلة

الناسخ والمنسوخ مصطلح ينتمي إلى عالم الفقه الإسلامي، عندما تُبطِل آية متقدّمةٌ الحكْمَ الشرعي لآية متأخرة عليها في الزمن؛ أمّا وقد تجرّدت هذه الثنائية الاِسمية مِن معناها الاصطلاحي واِنبرت في فيء معناها اللغوي، فيكون الناسخ هو الفاعل الذي يؤدي فعل النسخ، أي نقل الشيء بتفاصيله وحيثياته، بحيث يصير المنقول صورة مرآة للأصل.
الناسخُ إذًا فاعل، والمنسوخ هو المفعول به، ولا إرادة له في الاعتراض أو الرفض أو حتى التعبير عن الامتعاض... حاله حالُ الورق الذي يوضع في الآلة الناسخة، فيخرجُ عليه الحبرُ منقطًا مرتَّبًا منظَّمًا وقد أحال صفحته البيضاء بما علاها نسخة طبق الأصل عن صورة أصل وضعت فوق سطح «الفوتوكوبيوز»، مِن دون أن يكون للورق القدرةُ على الاعتراض أو حتى إبداء التأفف!!!

والناسخ الفاعلُ لا يُدركُ أنَّه حين يُعبِّرُ عن نفسه إنَّما يجلو نزعة دفينة للسيطرة والاستبداد والديكتاتورية؛ إذ ليس من نزعة للسيطرة واستبداد أكبر وديكتاتورية ِمن عدم الاعتراف بتميُّز المنسوخ قبل وقوعِ فعلُ الفاعلِ عليه، وعدم القبول بالاختلاف، والنرجسية التي تنحو قسرًا بالمنسوخ ليكون على هيئة لم يخترْها، وهيئة لن تُسعدَه، وكينونة تغتربُ عنه ويغتربُ عنها مع كل زفير وشهيق!

لو تأمَّل الناسخُ الطبيعةَ لوجدَ أنَّها اتسعت لأصناف وأنواع وأشكال وتدرُّجات من الألوان والنباتات والحيوانات والحشرات والكواسر والزواحف والطيور والأسماك، كما الزقزقات والزعيق والزئير والحفيف والخرير والعويل، والشكل والمضمون، والشجر والبشر، والطِّباع والتفكُّر...

لو تأمَّل الناسخ ببصمة إبهامه لعرف أنَّ الاختلافَ سُنَّة، والاختلافَ شُرعة، والاختلافَ مبنيٌّ على الفطرة، يُتبَعُ أثرُه عبر السنوات بدوس الأثر الذي تتسلَّلُ به الأعماقُ كلصٍ هاربٍ من خزنةِ مصرفٍ إلى حيّز العقل الواعي.
لو تأمَّل الناسخُ لتيقَّنَ أنَّ حتى الشجرة التي تلدُ من بذرتها شجرة تنشأ في ظلها، لن تنسخَ في الشجرة الوليدة صورة عنها، لا في الحجم، ولا في اللون، ولا في الارتفاع، ولا حتى في عدد الأوراق وتفضيل العصافير لأغصانها تتنقّلُ تغني تشدو تصدحُ بأعذب الألحان...

قد يخطر على البال المثلُ القائل «بيخلق من الشبَه أربعين»! صحيح، 40 نسخة لا تُطابق الكينونة الأصلية في مضمونها إنْ لم يكن في الشكل والمضمون... كيف ذلك؟ ذلك يكون في قدرة الأم على التمييز بين أولادها من التوائم فلا تخلط بين عمرو وعمر، ولا بين هلا وحلا، ولا بين يريد ويزيد... وقد اختلط الأمر على الجميع، وحاروا ما بين توأم وتوأمه... لا تخطئ الأم بينهما لا مدفوعة بحدس الأم وعاطفتها وإحساسها بأولادها فحسب، بل  كذلك بفوارق ولو بسيطة تميّز كل توأم عن توأمه... فوارق وإنْ لم يرها الآخرون ولم يلحظوها ولم يتبيَّنوها، فلا يعني إغفالهم لها انتفاء وجودها...
التميّز إذًا والاختلاف هو شريعة هذا الوجود وسنَّته، ولا تطابق بين اثنين أو أكثر إلاَّ بضعف القدرة على تمييز الناظر إليهما أو إليهم، شأنُ الكائنات في ذلك شأن البصمة التي ينفرد بها كل كائن والأثر؛ حتى البصمة الجينية التي تحمل ملامح السلالات عبر الأزمان، تنسخ بعض ملامحها في الآتي منها وتزيد عليه وقد تنفص وقد تقصّر؛ فلمَ هذا الإصرار مِن البشر على أنْ يكونوا ناسخين لاختلافاتٍ غايتُها إثراءً لهم أرادوه في الشكل أو المضمون؟

سؤال مشروع يرتبط بغريزة السيطرة أو الأنا التي تُعظِّمُ مِن صورتها في مرآة ذاتها، فتغفل عن أنَّ الحقيقة محجوبة بغالبيتها عن الخَلْق، وما بانَ منها نسبي الإدراك لارتباطه بقدرة الفرد أو الذات العاقلة وغير العاقلة على إدراكه أو التنبّه له؛ وتحاول بالتالي أنْ تجعل العالمَ الخارج عنها نسخة عنها.

لا تكن ناسخًا، ولا تدأب على أنْ تجعل الخلْقَ نسخة عنك، فلو كانت هذه هي سُنَّة الوجود لكان الخالق قد جعل الوجود على نسخة واحدة؛ وجعل الأرض لخليفته فيها سجنًا يرتدي فيه وذرّيَته من بعده عليها زيًا موحَّدًا!

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.