في خضم علامات استفهام عديدة حول الموقف الأمريكي بشأن الانتهاكات الايرانية المتوالية بحق الولايات المتحدة وحليفها الاستراتيجي الأقرب، اسرائيل، جاء تعهد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مجدداً بمعاقبة إيران على خلفية هجوم على ناقلة نفط في بحر العرب اتهمت به طهران، مؤكدا أن العالم لا يمكنه السماح "بالإفلات من العقاب" ليؤكد أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تزال تفكر في التعامل بصرامة مع السلوك الاستفزازي المتكرر للملالي سواء ضد المصالح الأمريكية نفسها في العراق، أو ضد اسرائيل الحليف الاستراتيجي الأقرب للولايات المتحدة، ولكن هذه الصرامة تبدو موضع تساؤل أيضاً في ظل تأخر "الرد الجماعي" الذي وعد به وزير الخارجية الأمريكي نفسه في الثاني من اغسطس الماضي، بل إن هذا التأخير بات يغذي التوقعات القائلة بأنه كان يقصد على الأرجح رد جماعي بأدوات وطرق غير عسكرية كفرض المزيد من العقوبات أو ما شابه ذلك.
تصريحات بلينكن في جلسة افتراضية لمجلس الأمن الدولي حول الأمن البحري، ركزت على "محاسبة هؤلاء المسؤولين (يقصد الايرانيين)" من جانب "كل دولنا"، وهو حديث لا يحمل اللهجة التي توحي بتغيير في الاتجاه الأمريكي عقب الهجوم الايراني على ناقلة النفط الاسرائيلية، بقدر مايعبر عن تفكير نمطي يعكس الهدوء غير المبرر الذي تتعامل به إدارة الرئيس بايدن مع الملالي في الآونة الأخيرة وهو مايدفع لطرح تساؤلات عديدة في محاولة لفهم مايدور وراء الكواليس.
في البداية تجب الاشارة إلى أن تقارير إعلامية عدة تحدثت عن قيام الولايات المتحدة بإلزام اسرائيل بعدم الاندفاع في الرد على أي استفزازات يرتكبها الملالي مباشرة أو من خلال وكلاء لهم كحزب الله اللبناني، خشية تقويض فرص التوصل إلى تسوية بشأن احياء الاتفاق النووي مع إيران، وهناك أنباء عن مقترح لعقد الجولة التفاوضية السابعة بهذا الشأن في سبتمبر المقبل، وذلك لاختبار نوايا الرئيس الايراني الجديد ابراهيم رئيسي، حيث يعتقد البيت الأبيض في أهمية انتظار الافعال لا الأقوال، ولا يريد التسرع في الحكم على توجهات رئيسي، وهو ما ألمح إليه بلينكن عند قلل من شأن الربط بين الاعتداء على ناقلة النفط من جهة، وتشدد الرئيس الايراني الجديد من جهة ثانية، وقال وقتذاك "رأينا سلسلة أفعال قامت بها إيران على مدى أشهر عدة، بما فيها ضد حركة الشحن، لذا لست متأكدا من أن هذا الفعل بالتحديد هو أمر جديد أو يُنذر بشيء ما، بطريقة أو بأخرى، بالنسبة إلى الحكومة الجديدة". وأضاف "لكن مايعبر عنه هو أن إيران تواصل التصرف بقدر هائل من اللامسؤولية".
الحقيقة أن إدارة الرئيس بايدن لم تصل بعد إلى بناء التوازن المطلوب بين "العصا" والجزرة" في إدارة أهم وأخطر ملفات السياسة الخارجية الأمريكية، بشكل لا يتناسب مع إعلان الرئيس بايدن نفسه عقب توليه منصبه عن العمل على استعادة هيبة الولايات المتحدة ومكانتها عالمياً؛ فرغم أن البيت الأبيض على يقين بأن "إيران لاعب سىء على الساحة الدولية"، لكنه يؤكد "مازلنا نعتقد أن البحث عن قناة دبلوماسية يصب في مصلحتنا الوطنية"، بحسب تعبير المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، التي أكدت أيضاً ضرورة العمل على انقاذ الاتفاق النووي، وأن الرجوع إليه "سيجعل الولايات المتحدة "في موقع أفضل للاستجابة لهذه المشاكل الأخرى"، وهو مايدف الكثيرين للقول بأن استراتيجية "حافة الهاوية" التي ينتهجها الملالي في إدارة هذه الأزمة قد اثبتت في فاعلية في ترويض السياسات الأمريكية التي لا تمتلك من البدائل ما يتيح لها اجبار الملالي على إظهار المرونة مفاوضات فيينا.
المعضلة أن الولايات المتحدة ليس لديها ـ على الأرجح ـ خيارات أو بدائل استراتيجية أخرى يمكن اللجوء إليها في حال فشل مفاوضات فيينا، ولو كان لديها ولم تعلنها فهي تقع بذلك في خطأ يتعلق بالتكتيكات التفاوضية المثلى، لأن الخصم يجب أن يعرف مسبقاً عواقب أي خيار متشدد قبل التوجه إلى جلسات التفاوض، لذا فإن الملالي يثقون في أن سقف البيت الابيض هو مواصلة تنفيذ العقوبات التي فرضها الرئيس السابق ترامب ولن يلجأ على الأرجح لفرض المزيد من الحصار والعقوبات ناهيك عن اللجوء للعمل العسكري، حفاظاً على نافذة فرص ليست موجودة لجلب الملالي مجدداً لمائدة التفاوض!
من الصعب القطع بأن موقف الولايات المتحدة بات ضعيفاً في مفاوضات الاتفاق النووي، ولكن المؤكد أن انقسام الموقف الدولي وإصرار الرئيس بايدن على العمل بشكل جماعي، فضلاً عن تمسكه باستبعاد مجرد التلويح بالخيار العسكري، جميعها عوامل توفر الفرصة لملالي إيران للظهور بمظهر القوة رغم وقوعه تحت طائلة عقوبات هي الأقسى والأشد تأثيراً، ولكن النظام قد اعتاد عليها ويجد غالبا دروباً للالتفاف على الكثير منها.
السيناريو السىء الآن أن العودة للاتفاق النووي قد لا تجدي نفعاً في ظل انتهاك الملالي بالفعل لبنوده وغياب الرقابة الدقيقة على المنشآت النووية الايرانية منذ نحو عامين واعترافهم رسمياً بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، ما يوحي للوهلة الأولى أن النسب الحقيقة للتخصيب هي أعلى من ذلك بمراحل.