أدهشت ألمانيا العالم في الحد من وفيات المصابين بفيروس الكورونا على أراضيها، ونجحت فيما فشلت فيه الدول الأوروبية الأخرى في الحد من أثار الفيروس المدمر صحيا، واجتماعيا، واقتصاديا على الأقل لحد الساعة، فما هو سر النجاح؟، ولماذا اهتمت الصحافة العالمية بالتجربة الألمانية؟ وماذا وجدت فيها؟
بعد مرور شهر كامل على الحجر المنزلي العام في ألمانيا، وبعد أن وصلت حصيلة الإصابات إلى ما يقارب ال127 ألف إصابة مؤكدة، و ما يزيد قليلا عن 3 آلاف حالة وفاة، عقد وزير الصحة الالماني الألماني ينس شبان يوم الجمعة الماضي مؤتمرا صحفيا أفاد فيه بأن فيروس الكورونا بات "تحت السيطرة" في البلاد، وعزى ذلك إلي القيود التي فرضتها الدولة.
ووفقا لهذه النتائج المريحة بات من المقرر أن تفتح المدارس أبوابها اعتبارا من الرابع من مايوالقادم، كما سيسمح للمتاجر التي تصل مساحتها الي ال 800 متر مربع بإعادة الفتح اعتبارا من الاثنين القادم شرط التزامها بقواعد الصحة العامة.
الواقع أن ألمانيا دولة عالية التنظيم، وفيها مؤسسات عديدة تضمن استمرار واستقرار آلية التنظيم بشكل لايسمح بإحداث فوضي، لقد كان واضحا منذ البداية أن كل خلايا العمل في كل الوزارات الألمانية قامت بالتنسيق فيما بينها على أكمل وجه، فتأكدت قدرة ألمانيا على التصدي للفيروس الغامض.
رغم أن ميركل كانت حريصة على الشفافية عندما أبلغت الشعب منذ البداية عن خطورة الفيروس، إلا أنها أرادت طمأنة الناس والتباهي عندما قالت: أن ألمانيا بها واحد من أفضل النظم الطبية في العالم إن لم يكن أفضلها على الإطلاق .
أنفقت ألمانيا بسخاء على مواجهة الفيروس، ومنذ البداية اهتمت بتعزيز قدراتها الطبية، ورصدت لذلك ما يفوق المليار يورو، ورفعت على الفور مستوى أقسام العناية المركزة حتى وصل عدد الأسرة فيها إلى 40 ألف سرير، وأصبحت بهذه النسبة الأولي على مستوي العالم، أيضا نجت في تشييد عدد من المستشفيات البديلة في أنحاء متفرقة من البلاد للتغلب على أي وضع للانهيار الصحي في حالة حدوثه، شاهدت بنفسي إحداها في المدينة التي أعيش فيها، إذ شيدت وحدات من الجيش الألماني مخيم كبير في حديقة المستشفي الرئيسي في المدينة، استعدادا لأي زحام مفاجئ.
هذا الإنفاق الحكومي السخي هدفه الأول هو استقرار المنظومة الصحية في البلاد ، ليس هذا فحسب بل امتد كذلك لدعم الأفراد الذين خسروا وظائفهم، أو الشركات التي قللت ساعات العمل و بالتالي انخفض مرتب العاملين فيها. لهذا قررت الدولة دعمهم من خلال مكتب العمل بالنقص الذي حدث في مرتباتهم، و منعت طرد أي فرد من محل سكنه حتى نهاية سبتمبر في حالة عجزه عن دفع الإيجار.
تميزت ألمانيا منذ البداية عن غيرها من الدول، في البحث عن المصابين، وليس الانتظار حتي يقوموا هم بالإبلاغ عن إصابتهم، فقد فعلت أشكال عديدة للفحص، وتحليل عينات الآلاف من المواطنين، إحداها علي سبيل المثال طريقة الفحص العشوائي للمسافرين عبر تنقلهم بين المدن، أو في المتاجر، وفي ولاية بافاريا تطرق لجان طبية مصحوبة الشرطة أبواب المنازل لآخذ العينات العشوائية، ووصل التحليل اليومي الآن إلى 100 ألف تحليل، فيما بلغت نسبة الذين أجريت لهم التحاليل حتى الآن 2 مليون شخص، وهناك جهود تبذل لمضاعفة النسبة في الأيام القليلة القادمة. على فكرة لا يتحمل المواطن هنا تكليف التحليل الذي يصل إلى 200 يورو، لكن شركات التأمين الطبي هي التي تتكفل بذلك، وقد ساهمت بنصف مليار يورو حتي الآن للتحاليل فقط.
هذا السخاء الحكومي تجاه المواطنين، ليس منحة ولا حسنه من الحكومة للشعب، بل هي أموال دافعي الضرائب، لهذا كانت الأولوية القصوى لرأس المنظومة السياسية في هذه الدولة القائم اقتصادها على الصناعة، ليس هو استمرار جني مكاسب مادية، وإنما الإنسان المواطن، و حمايته مهما تكلف ذلك من ثمن.
كثيرون تساءلوا ـ لماذا فتك الفيروس بالإيطاليين ولم يفعل ذلك بالألمان رغم القرب الجغرافي بينهما؟ أحد الأطباء الألمان شرح ذلك بإسهاب في مقابلة في الإذاعة البافارية قال فيها أن نسبة كبار السن في إيطاليا مرتفعة وهم الشريحة المتضررة بشكل مباشر بالفيروس، أيضا نسبة التلوث في المستشفيات الإيطالية عالية وهذا بالتأكيد ساهم في نقل العدوى بشكل واسع، كذلك تلوث الهواء في إيطاليا واحد من أعلى نسب التلوث في أوربا، وهذا بالتأكيد يساهم في الإضرار بالجهاز التنفسي للناس.
يجب لفت النظر هنا إلي نقطة أخرى مهمة، وهي وعى وثقافة الشعب الألماني بخطر الفيروس، ومن ثم ثقتهم أيضا في الحكومة، وثقتهم في مدي الجهود التي تبذلها الدولة من أجل سلامتهم، فكان واضحا التزام الناس بشكل تام بكل الإجراءات التي قررتها الحكومة، بالمسافة، والبعد الاجتماعي، والجلوس في المنازل، وعزل دور كبار السن ، و إحكام السيطرة على الداخل إليها، و منع الزيارات كان له أثر كبير في تقليل عدد الوفيات في بلد فيها أصلا فوق ال 21 مليون نسمة من كبار السن.
رغم أن الأزمة مازالت مستمرة إلا أن ألمانيا تنبهت إلى الدور المهم الذي يقوم به العاملون في المجال الطبي لاسيما الأطباء والممرضين ،وقررت منح مكافأت عاجلة عرفانا لدورهم المهم في الوقت الراهن، ووعدت بتحسين أجورهم خاصة الممرضين الفئة الأقل أجرا في ألمانيا والتي ليس لها مطالب فئوية عكس سائقي القطارات والعاملين في الطيران والمراقبة الجوية مثلا ، خاصة وان 70% من الممرضين في ألمانيا هم من النساء ويكسبن أقل بنسبة 12 في المائة من زملائهن الذكور.
الأزمة مازالت مستمرة، والحظر الجزئي مازال قائما، ولا أحد يستطيع التكهن بمدى الاستمرار في ذلك، ووفقا لعلماء الفيروسات الألمان والأجانب فإن انحسار الأزمة و رفع الحظر بالكامل لن يكون قبل اكتشاف مصل مضاد للكورونا، فنأمل أن يكون ذلك في القريب العاجل!.

