لم تكن مشاركة رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي" في القمة الخليجية – السابعة والثلاثون - التي عقدت في البحرين خلال الاسبوع الاول من الشهر الجاري، امرا عاديا او بروتوكوليا، بل هي كما اعتقد نقلة تاريخية في مسيرة العلاقات البريطانية – الخليجية على الصعيدين الاقتصادي والعسكري منذ انسحاب بريطانيا من المنطقة في العام 1971م، بعد تواجد إستمر لحوالي 200 عاما حيث كانت دول الخليج العربي محميات بريطانية منذ العام 1860م.
لم تخفي "تيريزا ماي" أن الهدف من مشاركتها في القمة الخليجية الاخيرة التي دعيت اليها، تهدف الى تحضير بلادها لمرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الاوروبي، حيث ستفقد بريطانيا بعد الخروج الامتيازات التي تتمتع بها حاليا في السوق الاوروبية المشتركة. وتمثل منطقة الخليج العربي بثرائها النفطي واحتياجاتها العسكرية والامنية المتزايدة احد هذه الخيارات التي قد تتبلور عن تشكيل تحالف بريطاني – خليجي اقتصادي وعسكري، يؤدي على الصعيد الاقتصادي الى إنشاء سوق حرة بين بريطانيا ودول مجلس التعاون الخليجي، وهي احد الحلول الاقتصادية لما بعد "البركيست"، وعلى الصعيد العسكري الى إقامة قواعد عسكرية ومراكز تدريب في المنطقة.
على الصعيد الاقتصادي، بلغت الصادرات البريطانية الى دول الخليج في العام 2014م حوالي 13,6 مليار جنيه استرليني (نحو 16,5 مليار دولار امريكي). كما تبلغ قيمة الاستثمارات الخليجية في بريطانيا حسب التقديرات الاخيرة حوالي 200 مليار دولارامريكي، حصة العقارات منها حوالي 45 مليار دولار امريكي، ما يمثل 40% من الاستثمارات الخليجية في العقارات في الدول الاوروبية. كما تؤكد الحكومة البريطانية ان هناك فرصا اقتصادية تقدر قيمتها بحوالي 30 مليار جنيه استرليني للشركات البريطانية للاستثمار في 15 مجالا اقتصاديا مختلفا في الخليج خلال السنوات الخمس القادمة.
اما على الصعيد العسكري، فتعتبر القاعدة العسكرية البحرية التي اقيمت مؤخرا في البحرين اول قاعدة عسكرية بريطانية في الشرق الاوسط منذ انسحاب بريطانيا من المنطقة عام 1971م، وتعتبر هذه القاعدة احد اهم القواعد البحرية البريطانية في الخارج، وسيكون لها عدة استخدامات من بينها دعم العمليات العسكرية البريطانية الجارية حاليا في العراق ضد تنظيم "داعش". كما سوف تستخدم هذه القاعدة ايضا لدعم المدمرات والفرقاطات البريطانية المتواجدة في مياه الخليج العربي بشكل شبه دائم، وسيتم توسيعها كي تشمل قاعدة عمليات جديدة متقدمة، ومكانا لتخزين المعدات للعمليات البحرية، وإيواء افراد البحرية الملكية البريطانية لضمان وجود دائم للقوات المسلحة البريطانية في المنطقة.
اضافة الى ذلك، اعلنت "تيريزا ماي" عن الاتفاق مع حكومة سلطنة عمان على انشاء قاعدة تدريب عسكري على الاراضي العمانية. وهناك اخبار عن محادثات مع الحكومة الكويتية حول بعض الشؤون العسكرية التي تهم البلدين.
يبدو ان الحكومة البريطانية قد اتخذت قرارها بأن تستعيد دورها في الخليج العربي الذي تخلت عنه لصالح الولايات المتحدة قبل حوالي 45 عاما، بعد ما شعرت ان الادراة الأمريكية الحالية قد ضعف اهتمامها بهذه المنطقة الحيوية من العالم لصالح مناطق اخرى في جنوب شرق آسيا تعتبرها اكثر اهمية لها من الناحية الاستراتيجة.
لا استطيع التخمين او الجزم بتبادل الادوار بين الدولتين الحليفتينلملأ الفراغ العسكري في المنطقة، ولكن الذي حدث في الواقع انه حين انسحبت بريطانيا من المنطقة بداية السبعينات من القرن الماضي حلت مكانها الولايات المتحدة لسد الفراغ العسكري وحماية دول الخليج من التهديدات والأطماع الإيرانية، وها هو العكس يحدث الآن – أي تحل بريطانيا مكان الولايات المتحدة - لنفس السبب تقريبا، وهو ما عبرت عنه رئيسة الوزراء البريطانية في خطابها الموجه الى قادة دول مجلس التعاون، حيث قالت بوضوح: "لا بد ان نستمر في مواجهة الدول التي تغذي زعزعة الاستقرار في المنطقة. لذلك اود ان أؤكد لكم انني أعي تماما الخطر الذي تشكله ايران على الخليج وعلى الشرق الأوسط، لا بد ان نعمل معا لصد التصرفات العدائية الايرانية".
آخر الكلام: قد تكون التحالفات العسكرية ذات اهمية ولها اسبابها الموضوعية في هذا الوقت العصيب الذي تمر به المنطقة العربية، ولكن بالتأكيد يبقى الضمان الأقوى الذي يدوم هو ولاء الشعوب لأوطانها. وعليه، نأمل ان تتصالح انظمة الحكم العربية مع شعوبها عن طريق تمكينهم من المشاركة الحقيقية في إدارة شؤون بلدانهم، وإرساء مبدأ العدالة، وتكريس مفهوم المواطنة. الواقع الحالي يؤكد ان هناك تنافر واضح بين اغلب الحكومات العربية وشعوبها الذي نتج منه هذا الاحتراب الأهلي المدمر للبشر والحجر منذ العام 2011م.