انقلبت الآية .. فبعد أن كنا نطارد المعلومة .. أصبحت المعلومة تطاردنا !
القنوات الفضائية، الصحف، الإذاعات، كلها استكانت للطفرات، وركبت مكوك الهاتف الجوال لتقتحم عالمنا ونحن منقادون بلا حول منا ولا قوة !
أي عالم هذا الذي بات مختزلا في هذا الجهاز الصغير ؟ وإلى أي (داهية) تسير بنا خطانا التي باتت خارج نطاق السيطرة ؟
ترى .. هل بإمكان أحد في عالم اليوم العيش بشكل طبيعي دون شوشرة الجوال وعوالمه وجنونه ؟
الإجابة للوهلة الأولى هي : نعم . فالأولون عاشوا بلا هذه الأجهزة، ولم ينقل التاريخ توقفهم يوما عن الأكل أو الشرب أو التناسل أو الصلح أو الاحتراب بسبب غياب الهاتف المحمول !
لكن مهلا، فمفاصل الحياة المعاصرة لم تعد نفسها السائدة قبيل عقود .
الاقتصاد والمصالح والعلاقات والأمن والتجارة والصحة والتواصل باتت جزءا من النسيج العميق للحياة المعاصرة، حتى يمكن القول إن حياة بلا اتصال متقدم معناها التضحية بكل المنجزات البشرية المتحققة في عالم اليوم .
الحقيقة ان العالم كله يركض للأمام . لا أحد يعرف ما يكمن هناك .. ولكن لا أحد يملك إيقاف الهرولة المحمومة نحو ذاك الـ (هناك) !
والتدفق المعلوماتي عبر النيو ميديا أصبح طوفانا لا يمكن بلوغ شواطئه ، وهو يركب صهوة الهاتف المحمول باتساع متنام لا قِبَل للبشرية بمثله .
خبر صغير متكامل الأركان كان يحتاج جهدا مضنيا من الحركة والتواصل والتنسيق والتوثيق والبحث والإعداد، ولذلك كان وصول المعلومة متوافقا مع إيقاع الحياة هدوءا ورتابة، وصحافة الورق كانت متوائمة مع الواقع المحيط وتتولى تزويد قارئها بالمعلومة التي تستحق أن يدفع مقابلها جزءا من مدخوله النقدي .
حتى التلفاز بمرونته المتطورة كان يستحق ساعات المشاهدة الطويلة التي يسكبها المتابعون بحثا عن الجديد .
والإذاعات المسموعة ظلت ابنة ذلك الواقع بلا نقص أو زيادة .
وفجأة :
انفجر البركان !!
بدأت الصحافة الورقية في طي (رولاتها) إيذانا بإفراغ الساحة لأختها الألكترونية .
والبث الرقمي اجتاح الإعلام التقليدي لتصبح الحوسبة سيدة الساحة .
والمتلقي التقليدي للمعلومة تحول إلى صانع ومنتج لتلك المعلومة عبر مواقع التواصل الاجتماعي .
وهكذا التفت الجميع للهاتف المحمول المتسارع الخطى في فرض سطوته، لينحدر السيل البركاني للمعلومات هادرا عبر ذلك المحمول، ولتحاصر تلك المعلومات الجميع حتى في مخادعهم .
هكذا بتنا ـ إذن ـ في لجة معلومات لا أول لها ولا آخر .. معلومات تتشعب في مختلف المعارف الإنسانية.. وتبدو كالتروس التي تترابط بلا انفصام، فإن انفصمت أعطت، بالكاد، الملامح ولم تعط اللب .
وعلى نسق المقولة العربية : (كثيرُ الكلام يُنسي بعضُه بعضا) .. تنبري أمواج المعلومات لتنسي بعضها بعضا، فيظهر في السطح نجوم في الواتساب وغيره، وينشغل الناس بهم أياما وربما أسابيع، وفجأة يطويهم النسيان وكأنهم لم يكونوا، ليبرز آخرون وآخرون، قبل أن يأفلوا هم أيضا مفسحين مجالا لنجوم جدد .
تبدو المتابعة مرهقة، ومد المعلومات لا يعرف انقطاعا، فيصاب الإعلاميون بأمراض القلب وأدواء الضغوط، ويحس المتلقي بالحصار والاختناق، ولا يبدو من حل في الأفق، فالحاجة للمواكبة والاطلاع لا تنقطع، والتواني عن المتابعة قد يقود لجهالة تفضي للأذى أو حتى الموت .
والواهم وحده من يظن أن الهاتف الجوال الذكي هو نهاية المطاف، فالركض الهستيري مستمر، والعقل الإنساني ينقل بصره هنا وهناك لإحداث النقلات في كل اتجاه، والمعلومة هي التي ستنتقل عبر كل ابتكار، والحصار سيزداد على العقول، إلى أن يحدث شيء لا ندري كنهه، ولا نعرف طبيعته .
حتى ذلك الوقت، سنكون أسرى الهاتف الجوال، نستند إليه في تواصلنا مع المحيط القريب والبعيد، نتناقل منه وإليه المعلومة والخبر والإحساس والمشاعر والرأي والصورة، وندور في فلكه بلا انعتاق أو استراحة .
إنها الخطى التي بدأها البشر منذ ظهورهم على الأرض .. تسير بهم إلى الرخاء والنعيم حينا، وتقودهم إلى التهاوي في الجحيم حينا آخر .. وهم لا يملكون سوى السير إلى الأمام، دونقدرة على التوقف أو حتى استكشاف المسار .
هجمة المعلومات أكبر من التصدي لها بالهروب، لأن أثمان الهروب أفدح من الوقوع بين براثن الهجمة .
الحل الوحيد هو تقبل فكرة الانتقاء، فالاستسلام لكل ما تطفح به الأسافير لن يقود إلا لحافظة غربالية تسرب معظم ما نتلقاه، وتهزم قيمة الوقت في أعمارنا المحدودة .. وحسبنا أن ننتقي بعض ما يجري، بدلا من تشويش إدراكنا بكل ما يجري ..
وتلك هي المعادلة المعضلة !