لِلشَّاعِرِ العَبَّاسِيّ، دِعبِل بنِ عَلِيّ الخُزاعي (ت246هـ=860م)، بَيْتَانِ مِنْ أَحْكَمِ الشِّعْرِ، وَأَجْمَلِهِ. يَقُولُ فِي البَيْتِ الأَوَّلِ:
مَـا أَكـثَـرَ النَّاسَ لَا بَـلْ مَـا أَقَـلَّـهُـمُ اللَّهُ يـَـعْـلَمُ أَنـِّي لَـمْ أَقُـــلْ فَـــنَــدَا
وَلِأنَّهُ جَاءَ فِي صَدْرِ بَيْتِهِ بِمَعْلُومَتَيْنِ يَبْدُو عَلَيْهِمَا التَّنَاقُضُ، بِقَوْلِهِ بِدَايَةً: «مَا أَكْثَرَ النَّاسَ»، ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: «مَا أَقلَّهُم»، لِذَلِكَ قَالَ فِي عَجْزِ البَيْتِ: «اللهُ يعلمُ أَنِّي لم أقل فَنَدَا»، و(الفَنَدُ): الْكَذِبُ، وأَفْنَدَ إِفنادًا: كَذِبَ، وفَنَّدَهُ: كَذَّبَهُ. (لسان العرب). يُريد: أن إثباتي كثرة النَّاس، ثُمَّ تأكيدي قِلَّة النَّاس، لَيسَ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْ تَنَاقُضٍ ظَاهِرٍ، وَلَا أنَّنِي كَذَبْتُ فِي قَوْلِيَ الثَّانِي بِقِلَّةِ النَّاسِ بَعْدَ القَوْلِ بِكَثْرَتِهِمْ، وَالقَلِيلُ عَكْسُ الكَثِيرِ كَمَا لَا يَخْفَى، لَكِنَّهُ أَضْرَبَ عَنِ المَعْنَى الأَوَّل بـ«بل».
وَالشَّاعِرُ بِهَذَا البَيْتِ، كأَنَّمَا يُمَهِّدُ لِمَزِيدِ شَرْحٍ فِي البَيْتِ التَّالِي إذْ يَقُولُ:
إِنَّـي لَأُطْـبِـقُ عَيْـنِـي ثُـمَّ أَفْـتَـحُـهَـا عَلَى كَثِيرٍ وَلَـكِـنْ لَا أَرَى أَحَـــدَا
وَعَادَةً يُغْلِقُ الإنْسَانُ عَيْنَيْهِ ثُمَّ يَفْتَحُهُمَا فِي حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَمَا تَصْدَمُهُ مَعْلُومَةٌ، أَوْ تُفَاجِئُهُ ورُبَّمَا تَفْجَعُهُ حَقِيقَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي حُسْبَانِهِ، فَهُوَ يُغْلِقُ عَيْنَهُ، مُحَاوِلًا تَجْدِيدَ قُدْرَتِهِ البَصَرِيَّةِ بِشَكْلٍ أَفْضَلَ، وَكَأَنَّهُ يُعيدُ تَشْغِيلَ جِهَازِ النَّظَرِ مِنْ جَدِيدٍ، لِيَعْمَلَ بِكَامِلِ قُدْرَتِهِ عَلَى الإِبْصَارِ، لَعَلَّ الحَقِيقَةَ الّتِي لَمْ يَتَوَقَّعْهَا، لَا تَكُونُ حَقِيقَةً، وَلَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ!
وَقَدْ يُغْلِقُ الإِنْسَانُ عَيْنَهُ ثُمَّ يَفْتَحُهَا، لِيُوقِفَ امْتِدَادَ الإِجْهَادَ البَصَرِيِّ السَّابِقِ، مَانِحاً عَيْنَهُ بَعْضَ الرَّاحَةِ، وَيَفْتَحُهَا مُجَدَّداً لِيُشَاهِدَ بِهَا مَنْظَراً يُرِيدُ لَهُ أَنْ لَا يَرْتَبِطَ مَعَ ضَجِيجِ الصُّوَرِ الّتِي مَرَّتْ بِهِ سَالِفًا!
وَالّذِي يُظْهِرُ أَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لنَا أَنَّ مَا قَبْلَ إِغْلَاقِ عَيْنَهُ، وَمَا بَعْدَ فَتْحِهَا، مَشْهَدَانِ مُتَبَايِنَانِ، فَهُوَ أَغلَقَ عَيْنَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَبَعْدَ أنْ يَفْتَحَ عَيْنَهُ يُؤَدِّي بِهِ وَعْيُهُ إلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، الّذِينَ كَانُوا كَثِيراً.
إنَّ التَّحَوُّلَ لَدَى الشَّاعِرِ مِنْ مَشْهَدٍ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، إلَى مَشْهَدٍ لَا يَرَى فِيهِ أحَداً، لَا يَعْنِي أنَّ الكَثْرَةَ مِنَ البَشَرِ الّذِينَ كَانُوا فِي أَوَّلِ مَشْهَدٍ اخْتَفَوْا مِنَ المَشْهَدِ الثَّانِي، وَلَكِنَّ تَقْييمَهُ لِهَؤلَاءِ النَّاسِ، جَعَلَهُ لَا يَرَى أَحَداً، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ الّذِينَ غُصَّ بِهِمْ المَشَهْدُ الأَوَّلُ، كَانُوا أجْسَاداً لَا يُعتَدَّ بِهَا فِي مَعَايِيرِ الشَّاعِر.
إذَا عَلِمْنَا مَا سَبَقَ، فَلَنْ نَسْتَغْرِبَ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الأَدَبِ، مِنْ أنَّ أَحَدَهُمْ سَأَلَ دِعْبَلاً الخُزَاعِيَّ:
مَا الوَحْشَةُ عِنْدَكَ؟ فَأَجَابَ: النَّظَرُ إلَى النَّاسِ! ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا أَكـثَرَ النَّاسَ لَا بَلْ مَا أَقلَّهُمْ اللَّهُ يـعْلَم إنِّي لَم أَقُـلْ فَـنَـدَا
إِنَّي لأُطْبِقُ عَيْنِي ثُمَّ أَفْتَحُها عَلى كَثِيرٍ وَلَكِنْ لا أَرَى أَحَدَا
إِنَّ مَا دَعَا الشَّاعِرَ لِيَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ الكَذِبَ، مَا جَاءَ فِي بَيْتِهِ، مِنْ تَأْكِيدِ كَثْرَةِ النَّاسِ، وَقِلَّتِهِمْ، فِي عِبَارَتَيْنِ مُتَتَالِيَتَيْنِ، وَهُوَ مَدْعَاةٌ لِأَنْ يَكُونَ أَحَدَ القَوْلَيْنِ صِدْقاً، وَالآخَرُ كَذِباً، فَأَكَّدَ أنَّهُ صَادِقٌ فِي الأَمْرَيْنِ مَعاً.
وَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي البَيْتِ الثَّانِي، أَنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ، لَكِنَّ النَّافِعَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، وَتَبْلُغُ القِلَّةُ فِيهِمْ أَنْ لَا يَرَى الشَّاعِرُ مِنْهُمْ أَحَداً!
وَهُوَ شَبِيهٌ بِبَيْتِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ:
وَمَا أَكْثَرَ الإِخْوَانَ حِينَ تَعُدُّهُمْ وَلَكِنََّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَلِيلُ
وَلِأَبِي فِرَاسٍ الحَمَدَانِي:
بِمَنْ يَثِقُ الإِنسَانُ فِيمَا يَنُوْبُـهُ وَمِنْ أَيْنَ لِلْحُرِّ الكَرِيمِ صِحَابُ
وَقَـدْ صَارَ هَذَا النَّاسُ إِلَّا أَقَلَّهُمْ ذِئـَاباً عَلَى أجْسَادِهِنَّ ثِيَابُ
ولأبي تَمَّامٍ، قَوْلُه:ُ
إِنْ شِئْتَ أَنْ يَسْـوَدَّ ظَنُّكَ كُلُّهُ فَأَجِلْهِ فِي هَذَا السَّوَادِ الأَعْـظَمِ
أي: إنْ أرَدْتَ أنْ لَا تُحْسِنَ الظَّنَّ بِأحَدٍ، فَاخْتَرْ مَنْ تَشَاءُ مِنَ النَّاسِ وَاخْتَبِرْهُ، وَالنَّتِيجَةُ سَتَكُونُ سُوءَ ظَنِّكَ بِالجَمِيع!

