لم تعد الانقلابات العسكرية في أفريقيا حدثاً استثنائياً يثير الدهشة، فهي جزء من التاريخ السياسي للقارة منذ ستينات الاستقلال من القرن الماضي. لكن الغريب حقاً هو أن يشهد العالم انقلاباً من نوع مختلف؛ انقلاباً يقرره الرئيس نفسه، ويخرجه بوسائله وأدواته، ويوزع فيه الأدوار بين الجيش والوزراء كما لو كان يعيد ترتيب بيته الداخلي قبل أن يغادره الآخرون قسراً. هذا المشهد، الذي لا يصلح إلا كمادة ساخرة في بعض الروايات، أصبح واقعاً في غينيا بيساو أخيراً، حين تحركت السلطة بطريقة توحي بأن الرئيس قرر أن ينقلب على نفسه قبل أن ينقلب عليه صندوق الاقتراع.
في العادة، تأتي الانقلابات من محيط الرئيس: من قائد الحرس الرئاسي، أو من جنرال ساخط، أو من مجموعة ضباط يتوهمون أنهم المنقذون. أما أن يختار الرئيس مسار الانقلاب، ويعين بنفسه قائد «الحركة التصحيحية»، ثم يختار وزير ماليته القريب منه لرئاسة حكومة مدنية انتقالية، فذلك أسلوب جديد يضيفه قادة غرب أفريقيا إلى موسوعة الابتكارات السياسية في القارة. وحتى دراسات العلوم السياسية قد تعجز عن إيجاد مصطلح دقيق لهذا النوع من «الانتقال الذاتي للسلطة».
غينيا بيساو، البلد الصغير الذي لا يتجاوز عدد سكانه المليونين، يعرفه المراقبون بوصفه إحدى أكثر الدول هشاشة في غرب أفريقيا. فقد عرفت منذ استقلالها عام 1974 سلسلة طويلة من الانقلابات، تارة بسبب صراع سياسي، وتارة بسبب نفوذ عسكري، وتارة أخرى بسبب صعود شبكات الجريمة المنظمة التي تتخذ من البلاد ممراً لتجارة غير مشروعة.
قبل وصول عمارو سيسوكو أمبالو إلى الرئاسة كان البلد يعيش في وضع أشبه بـ«دوامة فراغ»، لكن الضابط السابق الذي شق طريقه من رئاسة الحكومة إلى القصر الرئاسي قدم نفسه على أنه إصلاحي قادر على إنهاء سنوات الاضطراب، ومنذ تولى السلطة بدا كأنه يسعى إلى إعادة هندسة المشهد السياسي على مقاسه، فأقصى معارضيه، وقيَّد مشاركتهم، وطرح على مسلمي البلاد، خطاباً تواصلياً يجمع بين الرمزية الثقافية والشعبية.
لكن التجربة لم تدم طويلاً. فالانتخابات الأخيرة كانت فاصلة، إذ بدا أن التحالف الذي التفّ حول منافسه قادر على إبعاده من السلطة. المحاضر الانتخابية أحرقت في بعض المكاتب، والاتهامات بالتلاعب زادت من حدة التوتر، وشيئاً فشيئاً اتضح أن الرئيس أمبالو في طريقه إلى الخروج عبر بوابة التصويت الشعبي. عندها ظهر ما يمكن تسميته «الخطة البديلة»؛ خطة تؤمّن للرئيس البقاء من دون مواجهة مباشرة مع النتائج. فاختار أن يخرج من عنق الزجاجة بانقلاب ناعم يعيد ترتيب السلطة من الداخل، انقلاب بدا كأنه خروج محسوب بدقة، لا يفقده السيطرة ولا يمنحه صفة الهزيمة.
المفارقة هي أن أمبالو وهو يبحثُ عن مخرجٍ ينقذه من «الهزيمة»، لم يكن مُبدعاً، بل كرر نمطاً لجأ له أكثر من مرة خلال سنوات حكمه القصيرة، فكثيراً ما لجأ أمبالو إلى ما يمكن وصفه بأنه «الانقلابات الزائفة» التي تمنحه حجة لقمع الخصوم السياسيين أو تقليم أظافر الحلفاء الطامحين لأكثر مما يستحقون في نظره.
حدث ذلك عام 2023، حين أعلن أمبالو إحباط محاولة انقلاب مزعومة، واستغل الفرصة لحل الجمعية الوطنية المعادية له، رغم أنه لم يقدم أي دليل يثبت صحة هذه المحاولة، ولا العلاقة التي تثبت تورط البرلمان في محاولة زعزعة نظام الحكم.
لم تكن «الانقلابات الزائفة» هي الحيلة الوحيدة التي استخدمها أمبالو، بل كانت معها أيضاً «تهمة تجارة المخدرات»، التي قدمها الانقلابيون حجةً لإيقاف الانتخابات وتعطيل مؤسسات الدولة، وفق ما وصفوه بأنه «مؤامرة لزعزعة استقرار البلاد بتورط أباطرة المخدرات الوطنيين»، ولكنهم هنا افتقدوا الإبداع السياسي، ولجأوا إلى أسهل المخارج وأكثرها نمطية.
بالنسبة لكثير من المحللين والخبراء، كان كل شيء مكشوفاً.
خلال اليومين اللذين تليا «الحركة العسكرية»، كان أمبالو يتواصل مع قادة الإقليم والعالم عبر هاتفين، في مشهد يوحي بأنه ما زال يمسك بخيوط اللعبة. ولم يكن من الصعب عليه أن يحصل على دعمٍ أو على الأقل تفهم من بعض العواصم التي لا تريد لبيساو أن تنزلق إلى عنف جديد، لكن كثيرين من المراقبين اعتبروا ما حدث «خدعة سياسية» بامتياز. فالرجل الذي خسر الانتخابات أراد أن يمنع انتقال السلطة إلى منافسه، فاختار طريقاً يتيح له الانسحاب المؤقت ثم العودة حين تتحسن الظروف أو تتفكك التحالفات.
غادر أمبالو إلى السنغال، البلد الذي يعرفه جيداً ويتقن لغاته المحلية، فهو من أم تنتمي إلى واحدة من أكبر المجموعات العرقية المسلمة في غرب أفريقيا. وجوده في دكار منح الأزمة طابعاً أقل حدة، لكنه لم يلغ الأسئلة الكبرى المطروحة حول مستقبل غينيا بيساو. هل يكون ما حدث مجرد محطة عابرة يعود بعدها الرئيس إلى القصر؟ أم أن الجيش الذي أوحى له بأنه شريك في العملية سيقرر الاحتفاظ بالسلطة، كما حدث في دول أخرى، حيث يكون العسكريون في البداية إصلاحيين «وسطيين»، وينتهي بهم الأمر ألى أن يصيروا «حكاماً مطلقين»؟
الإجابة ليست سهلة، لكن تجربة غرب أفريقيا تقول إن العسكر، حين يدخلون السياسة، لا يغادرونها بسهولة. ووعود الضباط، كما يقول كثير من المثقفين الأفارقة، مثلها مثل ما يقال عن الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون. أما الرئيس أمبالو الذي يراهن على شبكة تحالفاته الإقليمية، فقد يجد نفسه يكتشف متأخراً أن السلطة التي تصنع هروباً إلى الأمام لا تمنح أصحابها فرصة دائمة للبقاء، بل قد تتحول تلك السلطة عبئاً ثقيلاً عليهم وعلى بلادهم.
ما جرى في بيساو يكشف مرة أخرى عن أزمة الشرعية التي تعيشها دول غرب أفريقيا. فالديمقراطية لا تُختزل في صناديق اقتراع تُحرق محاضرها، ولا في انقلابات تُخرج الرؤساء من مأزق الهزيمة. إنها منظومة قيم ومؤسسات لا تزال الطريق إليها طويلة. وبينما يتطلع شعب غينيا بيساو إلى انتقال سلمي للسلطة، يبدو أن الطريق أمامه تمر أولاً عبر التخلص من «وهم القوة»، ومن عقلية ترى أن الهروب إلى الأمام أفضل من الاعتراف بالهزيمة.

