منيرة أحمد الغامدي
في زمن تتبدل فيه معايير النفوذ الدولي لم تعد القوة الصلبة وحدها قادرة على صياغة مكانة الدول، فالمستقبل يكتبه من يمتلك المعرفة ويستثمرها كأداة تأثير عابرة للحدود، وهنا تبرز الجامعات بوصفها منصات لصناعة القوة الناعمة حيث تتحول قاعات الدراسة والمختبرات إلى مساحات دبلوماسية غير تقليدية يلتقي فيها الطلاب والباحثون ليعيدوا تشكيل الصور والانطباعات عن الدول.
السعودية تدرك هذا التحول، ولهذا شرعت في استقطاب جامعات دولية مرموقة من أمريكا وأستراليا وأوروبا وأستراليا في تخصصات مختلفة ومتنوعة لتأسيس فروع لها داخل المملكة وهذه الخطوة ليست مجرد توسع تعليمي بل مشروع إستراتيجي يعكس رؤية وطنية تُعيد تعريف موقع المملكة عالميًا عبر الدبلوماسية التعليمية.
هذا التنوع في الأصول الجغرافية والتخصصات الأكاديمية يضع السعودية على طريق أن تصبح مركزًا للتعليم العالمي ومختبرًا لإنتاج المعرفة العابر للحدود.
الجامعات ليست مجرد كيانات أكاديمية بل قنوات نفوذ صامتة؛ فالطالب الدولي الذي يدرس سنوات في السعودية سيعود إلى بلده حاملاً معه تجربة شخصية لا يمكن محوها بسهولة وهذه التجربة تتحول إلى رواية إيجابية عن المملكة تنتشر في مجتمعه لتغدو جزءًا من الصورة الذهنية عن السعودية، كما أن الخريجين الذين يشغلون لاحقًا مواقع قيادية كوزراء وأكاديميون وخبراء يصبحون سفراء غير رسميين ينقلون صورة المملكة من واقعهم لا من الإعلام، وهكذا تتحول الجامعة إلى جسر دبلوماسي يسهّل على الدبلوماسية الرسمية بناء علاقات أكثر ثباتًا.
إلى جانب التعليم تحمل هذه الجامعات وعدًا بفتح شراكات بحثية مع مؤسسات محلية ودولية وأوراق علمية مشتركة ومؤتمرات دولية ومراكز دراسات في الرياض أو نيوم تجعل اسم السعودية حاضرًا في قضايا المناخ والصحة والطاقة والذكاء الاصطناعي. هذه المشاركات البحثية ليست مجرد إنجاز أكاديمي بل رصيد سياسي غير مباشر فهي تُدخل المملكة في دوائر إنتاج المعرفة العالمية وتمنحها دورًا فاعلًا في صياغة الحلول بدلًا من الاكتفاء باستهلاكها.
استقطاب الجامعات لا يكفي ما لم يتحول إلى أثر يمكن قياسه فالقوة الناعمة لا تُقاس بالانطباعات بل بالمؤشرات وهنا تبرز أهمية متابعة موقع المملكة في مؤشر القوة الناعمة العالمي (Global Soft Power Index) الصادر عن مؤسسة Brand Finance. هذا المؤشر يُعد المرجع الأبرز عالميًا في قياس صورة الدول وتأثيرها الناعم عبر محاور تشمل الثقافة والتعليم والإعلام والحوكمة والقيم وتستخدمه الحكومات لرصد مواقعها في الرأي العام العالمي وتحديد نقاط القوة والضعف في صورتها الدولية.
ولكي يرتفع موقع السعودية في هذا المؤشر يجب رصد عناصر محددة مثل عدد الطلاب الدوليين المستقطَبين إلى الفروع الجامعية وحجم الأبحاث المشتركة المنشورة عالميًا وكذلك اعداد الخريجين التي العائدين إلى بلدانهم كسفراء غير رسميين للمملكة بالإضافة الى التغطية الإعلامية الدولية التي ترافق هذه التجربة الأكاديمية. إن تحويل هذه العناصر إلى بيانات سنوية مقاسة يعني أن التعليم العالي لن يكون مبادرة رمزية بل ركيزة من ركائز القوة الوطنية القابلة للتقييم والتطوير.
هذه الفروع الجامعية ليست مجرد مؤسسات تعليمية، بل فضاءات للحوار غير الرسمي بين شباب من عشرات الجنسيات فاللقاءات اليومية والنقاشات الأكاديمية والعمل البحثي المشترك كلها تبني لغة مشتركة عابرة للحدود، وهذه اللغة تكمل لغة السياسة الرسمية وتمنح المملكة أداة إضافية للتأثير تُدار بهدوء داخل القاعات لكنها تُثمر لاحقًا في المحافل الدولية.
ولذا من المهم النظر إلى خريجي هذه الجامعات كشبكة استراتيجية طويلة الأمد، فحين يعود هؤلاء الطلاب إلى بلدانهم ويصعدون في سلّم المسؤولية يصبحون قاعدة جاهزة لبناء تفاهمات أعمق، وهذا الرصيد البشري لا يُدار من خلال السفارات مباشرة لكنه يخلق بيئة ناعمة تسهّل عملها وتمنحها شركاء طبيعيين أكثر تقبّلًا للخطاب السعودي.
الأثر لا يتوقف عند الخارج بل يمتد إلى الداخل فوجود جامعات دولية في المملكة يسهم في بناء جيل سعودي معتاد على التعددية الثقافية ومتمكن من الحوار والعمل في بيئات عالمية كما يزرع قيم الانفتاح وتقبل الآخر، وهذه الديناميكية الداخلية ضرورية لتكريس صورة السعودية كقوة حضارية حديثة لا كمركز اقتصادي فحسب.
الجامعات الدولية في السعودية ليست مجرد توسع أكاديمي بل استثمار في الأمن الوطني الناعم، فكما أن ضعف المؤشرات الاقتصادية يهدد الاستقرار فإن غياب قياس الأثر الناعم يترك فراغًا في القوة الشاملة للدولة.
التعليم هنا يُسهم في خلق رصيد ممتد من العلاقات والتأثيرات لا يمكن بناؤه بالقوة الصلبة وحدها، ولضمان استدامة هذه الجهود تبرز الحاجة إلى إنشاء مركز وطني لمؤشرات القوة الناعمة التعليمية يتولى قياس الأثر وإصدار تقارير سنوية وتزويد صانع القرار بأدوات دقيقة لفهم موقع المملكة، وهذه البيانات حين تتكامل مع تقارير السياسة الخارجية تمنح العمل الدبلوماسي الرسمي قوة مضاعفة وتجعل الجامعات الدولية أدوات استراتيجية تُبنى عليها خطوات أوسع.
إن استقطاب الجامعات الدولية الموثقة في السعودية هو أكثر من توسع تعليمي، فهو إعلان عن دخول المملكة مرحلة جديدة من صناعة القوة الناعمة، والمعرفة حين تُدار بمؤشرات دقيقة وتُترجم إلى أثر ملموس تصبح عملة دبلوماسية قادرة على صياغة صورة المملكة عالميًا وإسناد سياستها الخارجية برصيد إنساني ومعرفي طويل المدى.
السعودية وهي تفتح أبوابها لهذه الجامعات لا تكتفي باستيراد التعليم بل تُعيد تعريف دورها كقوة حضارية تنتج المعرفة وتصدّرها، وبهذا تثبت أن الدبلوماسية الناعمة ليست حملة إعلامية بل مشروع إستراتيجي يُبنى في العقول قبل أن يظهر في المؤشرات، ويمتد أثره إلى طاولة السياسة حيث تُصاغ القرارات.