: آخر تحديث

قصائد الشيخ «الجبتي»

3
2
2

في إحدى الأمسيات الشعرية الخاصة.. وبعد انتهاء الأمسية تداخل أحد الحضور ممن أحسنوا بي الظن بقصيدة ترحيبية لا تخلو من عبارات المجاملة والإخوانيات كعادة كل قصائد المناسبات، والطريف في الأمر أنه ضمنها بعض التفاصيل الشخصية التي فوجئت من إلمامه بها.. وحين فرغ من قراءتها عبر هاتفه الجوال.. ابتسم وقال هذه القصيدة مهداة لك من الشيخ «الجبتي» ويعني الذكاء الاصطناعي «ChatGPT» ضحكنا جميعا حينها، لكن الحقيقة كانت أعمق من ذلك فكثير من الشعر المنظوم اليوم ولاسيما قصائد المناسبات بإمكان الشيخ «الجبتي» كتابتها نيابة عنا!.. إذن فنحن على أعتاب قصيدة اصطناعية إن نحن لم ندرك الشعر الحقيقي وما ينبغي له، وتمادينا بهذا الإفراط في النظم دون إدراك لجوهر الشعر.

والحقيقة أنه منذ أن بدأ الذكاء الاصطناعي يتقن فنون اللغة، أخذ يجرّب أن يكتب الشعر، أن ينظم أبياتًا تلمع فيها استعارة، أو تنبض بجرس موسيقي موزون، وقد يقرأ القارئ قصيدة تولّدها خوارزمية فيدهش، ويظن أن وراءها قلبًا نابضًا، لكن السؤال يبقى معلقًا: هل يمكن أن تبلغ هذه القصائد مرتبة الخلود، كما بلغت قصائد المتنبي أو درويش، تلك التي ما زالت تهزّ الأرواح بعد مئات السنين؟

القصيدة الخالدة ليست مجرد ألفاظٍ محكمة ولا صورٍ بديعة، إنها لحظة إنسانية تتكثّف في اللغة، وجمر يتوهج من تجربة حيّة، حين كتب أبو القاسم الشابي على سبيل المثال “إذا الشعب يومًا أراد الحياة”، لم يكن يصوغ قافية فحسب، بل كان يطلق صرخة ترددت في شرايين أمة كاملة، هنا تكمن المسافة بين الشاعر والآلة: الشاعر يقطر من عروقه دما شعريا، بينما الآلة تعيد تركيب ما قيل من قبل، فالذكاء الاصطناعي يكتب بذاكرة الآخرين، إنه أشبه بمرايا تصطف في صالة واسعة، تعكس وجوه الشعراء عبر العصور، وتعيدها بترتيبات جديدة، قد تبهرنا هذه المرايا، لكنها لا تستطيع أن تمنحنا الوجه الأول، الوجه الذي يتألّم ويتنفس ويكتب من جرحه الخاص، القصيدة التي يخطّها الإنسان تحمل أثر عرقه، دموعه، ضحكاته، وندوبه، أما نصوص الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت براعتها، فتبقى بلا حرارة جسد ولا خفقة قلب، ولعلنا هنا نقع في مأزق عصري إن لم نخرج شعرنا من رتابة النظم والإصرار على القصائد الباهتة الخالية من الروح، لتخرج علينا القصائد الاصطناعية بحجة» بضاعتكم ردّت إليكم».

ثمّة فارق آخر يتمثل في الخلود، فالقصيدة التي تعبر الزمن قادرة على أن تلامس أجيالًا متعاقبة، لأنها تخرج من حدود لحظةٍ واحدة لتصير صوتًا عامًا للإنسانية، المتنبي، مثلًا، لم يبقَ حيًا في شعره لأنه أتقن العروض فحسب، بل لأنه عبّر عن قلق القوة وضعفها، عن كبرياء الإنسان وانكساره، هذه التجربة الإنسانية هي ما يمنح النص حياة ممتدة، فهل تستطيع آلة «ناظمة»، لا تحلم ولا تخاف ولا تحب، أن تمنحنا هذا الامتداد؟

ومع ذلك علينا أن ندرك عصرنا وحيثياته، فلا ينبغي أن ننظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه منافسًا، بل بوصفه رفيقًا، يمكنه أن يفتح للشاعر أبوابًا لم يتخيلها: صورًا غير مألوفة، صيغًا جديدة، ومجازات مدهشة، لكنه يظل أداة، لا روحًا، الشعر في جوهره ليس هندسة لغوية، بل إشراقة إنسانية، وكما أن المرآة لا تصبح وجهًا، فإن القصيدة المولودة من خوارزمية لا تصير نشيدًا خالدًا إلا إذا لمسها إنسان، وعدّلها بروحه، ونفخ فيها من حنينه، كما أن أصالة القصائد علامة فارقة، فالقصائد العظيمة ليست مجرد كلمات، بل هويّة شاعر تتجسد. حين نقرأ بيتًا لدرويش أو الثبيتي، نعرف أنهما هناك، بأصواتهما وظلالهما وتجربتهما، أما قصائد الذكاء الاصطناعي أو ما يشبهها من المنظوم، فتظل بلا توقيع، بلا ذاكرة خاصة، بلا سيرة تعيش بين السطور، هي مثل نهر بلا منبع، يجري لكنه لا يعرف من أين يبدأ، ومع هذا فلربما حمل لنا المستقبل نصوصًا هجينة، حيث تلتقي براعة الآلة بجرح الإنسان، قصائد يشترك في صنعها العقل الحسابي والروح البشرية، فيولد من هذا التلاقي شيء جديد، لا هو محاكاة باردة، ولا هو تجربة وحيدة. قصائد تحمل بعض الدهشة التقنية، وبعض الوجدان الإنساني، وربما شيئًا من الخلود، فالآلة تستطيع أن تعلّمنا كيف نرتّب الكلمات، لكنها لا تستطيع أن تكتب لنا حكاية قلوبنا، الشعر في النهاية هو ابن اللحظة التي يهتف فيها الإنسان: «هذا أنا»، بينما الذكاء الاصطناعي، مهما أبدع، لن يقول إلا: «هذا ما تعلّمته منكم».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد