: آخر تحديث

ابحثوا عنهم

2
2
1

محمد ناصر العطوان

في زحمة الحياة، يختفي وراء صمت التعفف أناسٌ تعتصر قلوبهم آلاماً لا تُرى، وتُخفق في عروقهم حاجات لا تُسمع، هم أولئك الذين لا يسألون الناس إلحافاً، بينما أقدامهم تغوص في وحل الفاقة والحاجة والالتزامات غير المسددة، يُخفون جروحهم تحت ثياب التعفف، ويُلبِسون وجوههم أقنعة الرضا... فهل تراهم؟ أم أن عيوننا قد أُغمِضَت عنهم بغبار الغفلة، وحجاب الجهل، وتخمة الاستهلاكية؟ إنَّ الجاهل ليحسبهم أغنياء من التعفف، فيمرُّ بهم كظلٍّ عابر، لا يلتفت إلى همسات الحاجة التي تُناديه من أعماق صمتهم، ولا يسمع أنين الحاجة المُكتوم خلف ابتسامة الكرامة التي يبتسمونها، أولئك هم «الذين يعافُون السؤال»؛ لا يمدون أيديهم، لكن قلوبهم تنتظر يداً تمدُّ نفسها دون سؤال، ينتظرون... وهنا يَصدُقُ قولُ الشاعر محمود درويش في قصيدته الرائعة «فكر بغيرك»:

وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّرْ بغيركَ

لا تنسَ قوتَ الحمامْ

وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ

لا تنسَ مَنْ يطلبون السلامْ

وأنتَ تسدِّدُ فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ مَنْ يرضَعونَ الغمامْ وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ لا تنسَ شعبَ الخيامْ وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ ثمَّةَ مَنْ لم يجدوا حيِّزاً للمنامْ وأنت تفكِّر بالآخرينَ البعيدين، فكِّر بنفسكَ

قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ.

إن هذه القصيدة هي دعوة إلى أن نُحدق أبصارنا وراء الحُجب، دعوة إلى أن نرتقي السماء ونقارب الغيب، و أن نبحث عنهم في زوايا النسيان، أن نلمس حرارة الألم تحت برودة الصمت، فالصدقة والزكاة ليست قطعة من فضة أو ذهب تُلقى في كفٍّ، بل هي جسرٌ يُبنى بين قلبين، ونورٌ في ظلمة اليأس، إنها تذكير بأن الإنسانية سلسلة، إذا انكسرت منها حلقة، تداعت بقية حلقاتها وتهاوى الجمال كله.

وللصدقة عزيزي القارئ فوائد، منها تطهير النفوس، فالصدقةُ غسول للقلوب من أدران البخل، تُعيدُ للإنسان توازنه الروحي، فتعلمه أن العطاء ليس فضيلة فقط، بل ضرورة كالهواء، وبالصدقة تنال الرضوان، وتحافظ على صلتك وتجبر صلاتك.

أعزائي القراء، ابحثوا عنهم! اسألوا الناس، اقلبوا الحجارة، وانظروا تحت أقنعة الكرامة، فلعل يداً تمدُّها اليوم إلى محتاج تُنْقِذُك من هوة السقوط، أو تُضِيءُ شمعةً في درب الظلام. واذكروا أنَّ درويشاً لم يقل «فكر بنفسك»، بل قال «فكر بغيرك»، لأنَّ في العطاءِ سرَّ الخلود.

إنَّ المجتمعَ الذي يجهلُ محتاجيه كشجرة ترفض أن تسقي جذورها، فلا تلبث أن تذبل وتموت. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد