أمينة خيري
في العصر الحالي، وفي ظل الظروف العالمية والإقليمية التي تسير من حرب إلى أخرى، ومن بؤرة صراع إلى المزيد من البؤر، ومن تصاعد وتطور وانتشار الحروب غير التقليدية، أي تلك التي لا تعتمد على الدبابة والمدفع والطائرة العسكرية أدوات لها، يتضاءل عدد الدول التي تثبت أنها قادرة فعلاً لا قولاً على الاحتفاظ بأداءات قوية داخلياً، ووجوداً مؤثراً خارجياً.
في المدرسة، ترى جيلنا على مقولة «يد تبني ويد تحمل السلاح». تظل المقولة سارية المفعول، وإن تغيرت قواعد البناء، ومعها أيضاً تعريفات السلاح ومواصفاته.
البناء لم يعد طوباً وخرسانة وحديداً فقط، والسلاح لم يعد ذخائر ومقاتلات ومقذوفات فقط. أضيف لما سبق البناء في التعليم والبحث والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ومواكبة العصر واستباقه إن أمكن، وكذلك سلاح الهمة المعرفية، والدبلوماسية المرنة، وترسيخ موطئ قدم وحبذا قدمين في عالم المال والأعمال والمشروعات الكبرى، وتقفي أثر الفرص أينما كانت.
المحافظة على هذا التوازن بين الانتماء لعالم وقع جزء غير قليل منه في فخ الصراعات والحروب الملتهبة، وفي الوقت نفسه الالتفات لعمليات البناء الداخلية، سواء البشر أو الحجر، أمر بالغ الصعوبة، لكن ليس مستحيلاً.
البعض في منطقتنا العامرة بالصراعات وقع في فخ السعي وراء الموت والفناء والدمار، ولم يكتفِ بذلك، بل عمل واجتهد على مدار عقود ليجعل من هذا الفخ أسلوب حياة، وأخذ في ترويج ثقافة الموت باعتبارها الغاية من الدنيا بين الملايين. ولم يكتفِ هذا البعض بذلك، بل روج لفكرة شيطانية مفادها أن من يهتم بدنياه، ويعمل من أجل حاضره ومستقبله، ويعتني بالبشرية هو خارج عن الملة.
الأحداث والحوادث المتسارعة في منطقتنا منذ تفجر ما يعرف بـ«الربيع العربي»، وما تبعه من انكشافات لتيارات الإسلام السياسي، ومعها العديد من الجماعات والإيديولوجيات السياسية التي أخذت في فقدان أرضيتها الشعبية بعد ما تأكد خلو جعباتها من كل ما من شأنه أن يسهم في لحاق الشعوب بركب الحضارة الذي فاتها، ما زالت تلقي الضوء على ما نفتقد.
نظرة موضوعية سريعة إلى دول المنطقة العربية، ومن يقف أين، ومن يمضي قدماً في اتجاه المستقبل، ومن يصر على السير عكس التيار، ومن يحاول جذب الآخرين معه نحو حافة الهاوية، تكفي لنفهم الكثير.
نظام عالمي جديد يتشكل حولنا بكل تأكيد. لا نتفق على كل مكوناته، ولا يعجبنا جميع مكوناته، ولكن أن نكون جزءاً منه ونستعد له ونتفاعل معه، ونعمل على تعديله من الداخل لما يضمن صالحنا، أفضل من أن نرفع راية المعارضة والممانعة ورفض المشاركة.
المسألة ببساطة هي إن نظاماً جديداً يتشكل، وسيتشكل بنا أو من دوننا. البعض يظن أن المشاركة تعني التبعية، أو أنها تعكس ضعفاً أو هواناً. الحقيقة أن المشاركة تعني قوة، وتضمن دوراً فاعلاً.
وإذا تركنا جانباً ما يثار حول النظام العالمي الجديد، ونظرية المؤامرة الكبرى، وأن عصابة من النخب الدولية تجتمع في غرفة مغلقة لتلحق الخراب والدمار بالعالم وتهيمن عليه، فسيتبقى لنا أسس وقواعد جديدة يجري وضعها وتشكيلها وينبغي أن نكون مشاركين فيها.
النظام الجديد خليط من السياسة والاقتصاد والمال والمصالح الاستراتيجية والجيوسياسية والمنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، جنباً إلى جنب مع إعادة ترتيب الدول وتحالفاتها ومصالحها على هرم القوة. من يختار أن يسمو على الخلافات، ويعتبر القمة هدفاً له والعمل والعلم والبناء الطريق الوحيد نحو المستقبل، حر في اختياره كذلك. ومن يختار الغرق في صراعات طائفية، أو يمسك بتلابيب القاع متجاهلاً القمة، أو يعتبر الحنجورية طريقاً موازياً نحو المستقبل، حر كذلك فيما يفعل، شرط ألا يجبر الآخرين على اللحاق به في القاع، أو يبقيهم قسراً معه.
العالم كله في مفترق طرق اليوم، والعالم العربي ليس استثناء. الانكشافات التي نجمت عن أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي» صارت حقيقة لا تخطئها عين. ولحقت بها انكشافات عدة لا تقل عنها أهمية، في أعقاب ما جرى في أكتوبر 2023.