في عالم الدبلوماسية التقليدية تبرز مقولة تجسد جوهر التفاوض التقليدي: “ما أملكه هو ملكي، وما تملكه أنت هو محل التفاوض.” هذه العبارة، رغم بساطتها الظاهرية، تكشف عن منطق يهيمن للأسف على مسار المفاوضات النفطية الجارية بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان بشأن استئناف تصدير النفط عبر الأنبوب التركي.
يلحظ المتابع تجلي هذه الفلسفة التفاوضية العقيمة في الاجتماعات المتكررة بين الطرفين، حيث تنعكس هذه العقلية جلياً في نتائج المباحثات التي لم تثمر حتى الآن حلولاً ناجعة. وكما يقول المثل “الحكيم تكفيه الإشارة.”
إن العملية التفاوضية ليست مهمة إدارية روتينية يمكن إسنادها لأي شخص يحمل شهادة علمية، بل تتطلب كفاءات متخصصة وفهما عميقا للقضية محل التفاوض. فكما يستحيل تعيين طبيب أو مهندس متفوق قائدا لوحدة عسكرية لمجرد تميزه في مجاله، كذلك لا ينبغي تكليف شخصيات تفتقر للمؤهلات والخبرات المناسبة بملفات تفاوضية حساسة تمس مصير البلاد.
هذا القصور في اختيار المفاوضين المؤهلين قد كبّد الشعب العراقي خسائر فادحة تجاوزت عشرين مليار دولار حتى اللحظة، والخسائر مستمرة بسبب الإخفاق في التوصل إلى نتائج ملموسة. فالأطراف الثلاثة المعنية -الحكومة الاتحادية والإقليم والشركات الأجنبية- كل منها يسعى لتحقيق أهدافه. وبالعودة إلى الماضي القريب، نجد أن الحكومة الفيدرالية قد طعنت في شرعية العقود التي أبرمتها حكومة الإقليم مع شركات النفط الأجنبية، وهددتها بإدراج أسمائها في القوائم السوداء، لكن المحاكم العراقية في بغداد أصدرت في ديسمبر 2024 قرارا يؤكد صحة تلك العقود والالتزامات المترتبة عليها من حقوق وواجبات.
رغم ذلك، لا تزال تعقيدات التفاوض تتزايد، والاجتماعات متواصلة بين بغداد وأربيل، لكن النتائج -كما يعبر المثل العراقي بدقة- “تيتيتيتي مثل ما رحتي جيتي.” تكمن العقبة الحقيقية في وجود مفاوضين يحضرون إلى طاولة المباحثات وقد عقدوا العزم مسبقاً على رفض أي مقترح، متربصين لإطلاق كلمة “لا” قبل حتى استيعاب مضمون ما يُطرح.
وفي الواقع راودني الشك مرارا في جدية المتفاوضين بشأن إيجاد حل للأزمة، وذلك لعدم اهتمامهم بتفاصيل لوجستية بسيطة لكنها ضرورية لنجاح المفاوضات. فمن المستغرب عدم توفير مترجم محترف رغم مشاركة شركات أجنبية في المباحثات، ما اضطرهم إلى الاستعانة بموظف عادي للقيام بهذه المهمة الحساسة. كذلك غياب وسائل إيضاحية ضرورية لقضية تتسم بالتعقيد وتزخر بالأرقام والمعلومات التي تستلزم تدقيقاً ودراسة متأنية.
ولعل أخطر ما يقوّض هذه المفاوضات هو غياب حسن النوايا، وهو ركن أساسي في أي تعاقد قانوني. فحين تتوافر النوايا الصادقة، يمكن تدارك الأخطاء وتصويب مواطن الخلل مهما تعاظمت. أما في ظل سوء النية، فإن أكمل العقود وأدقها يظل عرضة للشك والنزاع، لأن من يحمل نية سيئة سيبحث دوماً عن أية ثغرة ليحولها إلى عقبة.
إن الوطنية الحقيقية ليست شعارات براقة أو خطابا حماسيا، بل هي السعي الحثيث لتأمين مستقبل المواطن ورفاهيته. هذا المواطن الذي يكابد الفقر والظروف المعيشية القاسية هو من فوّضنا تمثيله في مثل هذه المفاوضات المصيرية، لذا يجب أن تكون مصلحته البوصلة التي توجه دفة المباحثات.
تتطلب المفاوضات الناجحة فريقا من الخبراء المتخصصين المتجردين من الأجندات السياسية التي تعرقل التفاهم، مع التركيز على المعالجة القانونية والدستورية للقضايا الخلافية. فلو التزمنا بالدستور بروحه ونصه، بعيداً عن التفسيرات المسيّسة، لحققنا السلام والاستقرار للجميع.
الوضع الاقتصادي للعراق اليوم بات حرجا بشكل متزايد، في ظل انخفاض أسعار النفط إلى 60 دولاراً للبرميل، بينما بُنيت موازنة البلاد على أساس سعر 70 دولارا للبرميل. كما أن قرار منظمة أوبك بزيادة إنتاجها بأكثر من 411 ألف برميل يشكل عاملاً سلبيا إضافيا على أسعار النفط، ناهيك عن التزام العراق بتعويض النقص في حصص السنوات السابقة، ما يفاقم التحديات الاقتصادية.
لذا يتعين على المفاوضين استحضار هذه المعطيات في حساباتهم، والاستفادة من الرغبة الجادة للقيادة العليا في تسوية هذه القضية، سواء في الحكومة الاتحادية بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، أو في حكومة الإقليم برئاسة مسرور بارزاني، حيث يعمل الطرفان بجدية على حل هذه المعضلة التي طال أمدها.
لقد أكدت سلطات إقليم كردستان مرارا على أهمية توظيف الموقع الإستراتيجي للإقليم كجسر حيوي يربط أوروبا بالشرق الأوسط، خاصة في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة سياسيا واقتصاديا وعسكريا. إن حل الخلافات العالقة سيسهم في طمأنة الشركات الأجنبية وجذبها للاستثمار بعد سنوات من التردد بسبب الهواجس الأمنية وحالة عدم اليقين. كما أن تعزيز الثقة سيدعم الاستقرار الاقتصادي ويزيد الإيرادات، وهي عوامل حيوية لمواجهة التحديات المالية الراهنة.
علينا أن ننتهج مسار الدول المتقدمة والمتحضرة عبر احترام سيادة القانون والدستور، والعمل على توحيد الكلمة والغاية، وتعزيز القواسم المشتركة، وتذليل نقاط الخلاف. كما يجب علينا الابتعاد نهائيا عن استخدام احتياجات المواطن وقوته اليومي كورقة ضغط مهما كانت المبررات.
إن الأزمة الراهنة تُظهر بجلاء كيف أن غياب ثقافة التفاوض البناء يمكن أن يحول قضية وطنية إلى صراع مصالح، وكيف أن تغليب المكاسب الضيقة على المصلحة الوطنية العليا يكبد البلاد خسائر جسيمة. وما لم نتجاوز هذه العقلية، فستظل المفاوضات تراوح مكانها، والخاسر الوحيد هو المواطن العراقي.