: آخر تحديث

إشكاليات "الهندسة الاجتماعية".. في العلاقات الدولية

14
11
10

كان أول احتكاك لي بمصطلح "الهندسة الاجتماعية" قبل سنوات، وذلك في سياق تقني مرتبط بأمن المعلومات، حيث يُستخدم للدلالة على اختراق النظم المعلوماتية من خلال التلاعب النفسي بالمستخدمين، واستغلال سلوكهم البشري للوصول إلى بياناتهم، عوضًا عن الاعتماد على أدوات الاختراق التقنية البحتة.

لكن مع مرور الوقت، اتضح أن هذا المفهوم يتجاوز المجال السيبراني بكثير، ليأخذ بعدًا سياسيًا واجتماعيًا أشد تعقيدًا. ففي السياق السياسي، تشير "الهندسة الاجتماعية" إلى محاولات الدول تشكيل بنية المجتمع وإعادة صياغة وعيه وقيمه وهويته، باستخدام أدواتها المختلفة مثل التعليم والإعلام والتشريعات والسياسات الثقافية، بما يخدم أهدافها، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو أيديولوجية.

وفي العلاقات الدولية، يرى البروفيسور الأمريكي المعروف "جون ميرشايمر" بأن الدول التي تحاول إعادة تشكيل المجتمعات الأخرى قسرًا؛ ترتكب خطأً إستراتيجيًا فادحًا، غالبًا ما يؤدي إلى كوارث إنسانية وجيوسياسية، واستشهد في ذلك بتجارب الولايات المتحدة في مناطق عديدة من العالم، منها فيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها، واصفًا كافة تلك التجارب بالكارثية والمأساوية. ففي فيتنام فشلت محاولات فرض نظام سياسي وثقافي مخالف لما يريده الناس، رغم التفوق العسكري الأمريكي الهائل. وفي أفغانستان لم يسفر إنفاق مليارات الدولارات على بناء دولة "ديمقراطية"، وانهار كل شيء خلال أيام بعد انسحاب القوات الأمريكية، حيث إن المجتمع لم يتبنَ النموذج الأمريكي لأنه لم يؤمن به، ولكونه لم ينبع من داخله. وفي العراق لم يكن إسقاط النظام البعثي بداية لأي تحول ديمقراطي، بل بداية لفوضى شاملة، طائفية وغير طائفية.. والسبب مجددا هو الفشل في فهم تركيبة وتعقيدات هوية المجتمع المراد هندسته اجتماعيا.

لا شك أن مشاريع الهندسة الاجتماعية المفروضة -على أي دولة- من الخارج تُعد من أكثر المبادرات تكلفةً وأقلها جدوى، إذ غالبًا ما تُبنى على تصورات ساذجة تتجاهل الطبيعة العميقة للإنسان والمجتمع. إن افتراض أن المجتمعات البشرية قابلة لإعادة التشكيل كأنها لوحة بيضاء خالية من التفاصيل هو وهمٌ خطير، فكل مجتمع يحمل في أعماقه تراكمات متجذرة من التاريخ والثقافة والدين والقبيلة، لا يمكن تجاوزها بالقوة العسكرية، ولا بافتراضات تُنسج في أبراجٍ عاجية.

وحين يُفرَض مشروع التغيير من خارج سياقه المحلي، دون أن ينبع من حاجات الناس ووعيهم، يُنظر إليه – مهما كانت شعاراته نبيلة كالحرية أو التقدم– على أنه شكل من أشكال الاحتلال السياسي والثقافي، مما يثير المقاومة ويقوّض فرص النجاح.

خلاصة القول أن الهندسة الاجتماعية لا تنجح حين تُفرض من الخارج إلى الداخل، بل حين تنبع من فهم عميق لروح المجتمع وهويته الثقافية والنفسية، فالمجتمعات لا يمكن "تصنيعها" وفقا لنماذج نظرية جاهزة، بمعزل عن واقعها وتاريخها.. وعندما يُتجاهل هذا الفهم، تكون النتيجة غالبًا كائناً مسخًا مشوّه الملامح، لا ينتمي إلى ماضيه، ولا يملك أدوات العيش في مستقبله.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد