لا بد أن الذين حضروا القمة العربية الماضية في المنامة قد أسعدهم أن يتم ضبط موعد القمة المقبلة على توقيت بغداد.
ذلك أن ذهاب أعمال القمة المرتقبة في 17 من هذا الشهر إلى عاصمة الرشيد سوف يبعث بكثير من الإشارات التي لا تُخطئها عين متابع، وسوف تكون اللحظة التي يسلِّم فيها ملك البحرين رئاسة القمة للرئيس العراقي لحظةً تستحقُّ التوقف أمامها.
من بين الإشارات أن عرض الحكومة العراقية استضافة أعمال القمة يدل على رغبة لديها في إثبات أن الحالة الأمنية في البلاد تسمح بهذا وتدعو إليه. فمنذ سنوات توحي الأخبار القادمة من هناك بغير هذا. ومنذ أن دخل العراق دوامة ما بعد صدام حسين وهو يحاول الخروج من حالة سيقت الدولة إليها عن غير رغبة منها، فإذا جاء وقت يسمح باستضافة أعمال قمة عربية مكتملة، فهذه شهادة يمكن أن يكون لها ما بعدها من خطوات البناء عليها.
إن العراق ليس بلداً عادياً، ولا هو من البلاد التي يمكن أن تمر العين من فوقها على خريطة الدنيا من دون أن تنتبه، وإذا شاء أحد أن يعرف معنى ذلك، فليرجع إلى موسوعة «قصة الحضارة» للأميركي ويل ديورانت، وعندها سوف يجد أن الشهادة في حق العراق في الموسوعة هي من أجنبي لا من عراقي أو عربي، وسوف يجد كذلك أن الحضارة العراقية القديمة استحوذت وحدها على فصول واسعة في الموسوعة.
ومن بين الإشارات التي يرسلها انعقاد القمة العربية في عاصمة الرشيد، أنه سوف يؤصل للانتماء العربي لدى العراق والعراقيين. لقد جاء وقت طغت فيه محاولات جرّ العراق بعيداً عن حاضنته العربية، ولأن تلك المحاولات الإقليمية كانت ضد طبائع الأمور، فإنها قد ذهبت أو خفّت على الأقل كما نرى في تطورات الفترة الأخيرة، بينما بقي أن العراق قُطرٌ عربي، وأنه عاش كذلك، وسوف يظل، وأن أي قفز فوق هذه الحقيقة هو تجاوز لما لا يمكن تجاوزه.
العراق قُطرٌ عربي لكل أبنائه، وهو سماء تُظلل كل مواطن يحمل جنسيته، وإذا بدا مثل هذا الكلام غريباً، فلأننا في زمن نجد أنفسنا في حاجة خلاله إلى تأكيد المؤكَّد نفسه، ثم إلى الإشارة إلى ما هو بدهيٌّ بطبيعته.
كَمْ كان مؤلماً أن نتابع توقيعات في البرلمان العراقي تدعو إلى عدم استضافة الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة. حدث هذا وتابعناه منشوراً في أكثر من مكان، ولكن من حُسن الحظ أن أصحاب التوقيعات لم يشكلوا أغلبية، وإلا فإن الأخذ بما يدعون إليه كان كفيلاً بإحداث شرخ لا يمكن مداراته في قمة لم تنطلق أعمالها بعد. وعندما ذهب محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، إلى لقاء مع الشرع في الدوحة خلال زيارة له إليها، فإن رئيس الحكومة العراقية لم يَسلَم من الهجوم، ولكن من حُسن الحظ أيضاً أن العراق تجاوز عاصفة الهجوم ووضعها في حجمها الطبيعي.
وما كادت عاصفة الهجوم على السوداني تنحسر، ومعها دعوات عدم استضافة الشرع، حتى كانت دعوات أخرى قد انطلقت في الجزائر تطلب من الرئيس عبد المجيد تبون عدم حضور القمة، لا لشيء إلا لأن الرئيس هواري بومدين، كما قال أصحاب الدعوات، قد أُصيب بمرض غامض عقب زيارته العراق في 1978، ولأن طائرة الصديق بن يحيى، وزير الخارجية الجزائري الأسبق، قد سقطت أيام أن سعى إلى وساطة تُنهي الحرب العراقية - الإيرانية. ولكن أظن أن الحس العربي الجزائري القوي سوف يتجاوز هذه الدعوات، وسوف يكون بلد المليون شهيد في مكانه على طاولة القمة.
نظرةٌ إلى المشهد أمامنا تقول إن ما يواجه عواصم العرب في هذه اللحظة لم يحدث أن تكاثر عليها بهذا الشكل، ولا بهذا المنظر، ولا بهذه القوة، وإذا كان للعرب أن يراهنوا على شيء في مواجهة هذا كله، فليراهنوا على أنفسهم أولاً وآخراً، ولتكن القمة هي نقطة البدء لمثل هذا الرهان، لا لشيء إلا لأن كل رهان آخر جرى تجريبه، ولم يصل بنا إلى شيء، بل قادنا إلى ما نحن فيه مما لا تخفى تفاصيله على أحد.
عندما جاءت حكومة أحمد زيوار باشا في القاهرة قبل 1952، سمّاها رئيسها حكومة «إنقاذ ما يمكن إنقاذه». وبالقياس، فإنه لا بديل عن النظر إلى قمة بغداد على أنها قمة إنقاذ ما يمكن إنقاذه عربياً. أما ما يمكن إنقاذه فهو كثير، لأن لدينا أوراقاً عربية متنوعة يمكن توظيفها في مهمة الإنقاذ، وعندها سوف يفهم كل طامع في أرض العرب أن لديهم ما يستطيعون به الدفاع عن مصالحهم، وأن واديهم ليس أرضاً للمطامع المنفلتة، ويجب ألا يكون. إنني أتكلم عن أوراق سياسية، واقتصادية، ودبلوماسية، فلا أحد يريد حرباً، أو يدعو إلى قتال.