: آخر تحديث

أثر علم الكلام في الفكر والثقافة.. والسعودية مثال

1
1
1

حسن اليمني

لا يقل علم الكلام عن العلوم الأخرى أهمية، بل إننا كمسلمين وكعرب قد يكون علم الكلام مهماً لنا بدرجة أعلى من كثير من العلوم الأخرى، ليس تقليلاً من باقي العلوم ولكن لسعة مدى حاجتنا لعلم الكلام الذي يرتبط ويمس ويؤثر اجتماعياً وسياسياً في حياتنا كعرب ومسلمين.

من نافلة القول إن علم الكلام موجود في كل الثقافات والأمم، فهو المنطلق للمعتقدات والأفكار والقناعات والتوجيه السلوكي والأخلاقي، لكن الثقافة العربية المنحازة للبيان والبلاغة إلى درجة التميز تعطي لهذا العلم أهميته المستحقة لولا أن لفظ «الكلام» وتبويبه كعلم في غالب الأحيان يضعف الاهتمام به من قبل جموع العامة من الناس، ولا تكاد تبين أهميته إلا بجوار أهل الفكر والثقافة بما يجعله علم نخبة وربما محبوس في دائرتها ومحيطها، وهذا يظهر في سلاسة وسهولة الانحياز للأفكار الأيدلوجية لدى العامة بما يسّر ظهور وانتشار المدارس المذهبية والفكرية في العرف والمعتقد والتقليد.

بلغ هذا العلم قمّة أوجه ووهجه في النصف الأول من الدولة العباسية ثم تقسم إلى أجزاء متناثرة في النصف الآخر، إلى أن دخلت عليه كثير من الانحرافات المذهبية والفكرية المستوردة من الثقافات العرقية الأخرى التي تسنّى لها الظهور السياسي كالدولة البويهية والأخيضرية والعلوية والحمدانية والفاطمية كأحد أهم علامات التقهقر والتخلف الذي امتد حتى قيام الدولة العربية المستقلة.

ظهرت القومية والبعثية والاشتراكية والديمقراطية كعناوين لأيدولوجيات فكرية حديثة في الوطن العربي وعاشت زمناً إلى أن ظهرت الحداثة الغربية لتمتص أكبر عدد من المثقفين والمفكرين النافرين من تلك المدارس القديمة، لا تنقيح وتصفية أو ترقية أو تطوير لها وإنما إحلال محلها كخطوة للخروج من التاريخ واللحاق بالمدنية المتقدمة للغرب القاهر المنتصر المتطور، هذه الحداثة الفكرية المقلدة للثقافة الغربية في علم الكلام أصبحت مظهراً من مظاهر التثقف والترقي الفكري بما أتاح لها إشباع ترجمة أفكارها اعتماداً على مفكري وفلاسفة الغرب والاستشهاد بكلامهم محل الاستشهاد بالأعلام الفكرية والنافذة في الثقافة العربية والإسلامية، إلى أن وصلنا إلى مرحلة التغريب الفعلي ليس في الكلام فقط بل وصل إلى السلوك وحتى الأخلاق، وضرب في عمق الأعراف والتقاليد إلى حد وصمها بالتخلف والرجعية، كما نشاهد ونعايش كثيراً من مظاهره في حياتنا اليومية راهن الوقت.

أمامي صورتان إحداهما لمحاورة شعرية لشاعرين من البادية والثانية لجدل فكري بين مثقفين اثنين أحدهما ليبرالي والآخر قومي بعثي، هؤلاء الأربعة جميعهم عرب ومسلمون مرتبطين بتاريخ وفكر ومعتقد وثقافة واحدة إلا أنك سترى فارقاً هائلاً في اللغة والكلام في تسييل مخزون وعائهم الفكري والثقافي إلى درجة يصعب فيها على العقل أن يتخيل وحدة الأصل الذي تفرعت منه، لكنك ستدرك أن هذا يشير إلى إهمال الاهتمام بعلم الكلام في الثقافة العربية والإسلامية منذ انتهاء مرحلة الغزالي وبن رشد وبن سيناء وبن خلدون إلى انقطاع استمر لقرون من الغياب والاندثار، حتى ظهر الاستعمار والعصر الحديث للدولة العربية لتظهر ثقافة علم الكلام بصورة مختلفة لا تربط الحاضر بالماضي وإنما تستبدله وتحل محله، والداعي للفخر والاعتزاز أنه لم ينهزم حتى اليوم رغم صعوبة الحرب المستعرة وتبدل أدواتها لدرجة لا تصح فيها المقارنة.

من هذا الفخر والاعتزاز ما قد تشاهده في تسميات وعناوين طرق ومدارس وميادين في المملكة العربية السعودية أكاد أراهن أنك لن تراها في وطن عربي آخر، ومثال ذلك مدرسة باسم علي بن أبي طالب وأخرى باسم معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم جميعاً - وستشاهد شارعاً باسم الحسين بن علي وآخر باسم يزيد بن معاوية، وهكذا، وأنت حين تتأمل عمق مدلول هذا الكلام أو اللغة ستكتشف أن الثقافة العربية السعودية متميزة عن الثقافة العراقية والشامية والمصرية والمغاربية بترابط قوي ومتين بين الأصول والفروع بشكل ظاهر وبيّن بدرجة التميّز والصفاء، وأزعم أن ذلك يرجع لسلاسة الانتقال في مراحل التقدم والتطور بأمان ويسر دون تعقيد أو بالأصح دون عسر وقسر فرضته أو خلقته قوة أخرى اقتحمت العقل والفكر لتعيد صياغته بلغة أو كلام مختلف.

علم الكلام يعني اللغة المستخدمة في الفهم والإفهام سواء كان كتاباً أو مقالاً أو خطاباً أو فعلاً سياسياً، وللباحث في عمق الفكر والثقافة أن يلحظ أن المملكة العربية السعودية بفكرها الثقافي والاجتماعي والسياسي متميزة بالجودة والأصالة، وإن طغى البعد الاقتصادي والثروة والنفط ليحل محل الصورة الحقيقية، إلا أن للباحث في العمق إمكانية رؤية المعدن الأصيل الذي يجلي مراحل التحول والتغير والتطور من تاريخ العرب الجاهلي مروراً بالظهور الإسلامي وعهود الإمبراطورية العربية الإسلامية، وربطها بالحاضر بيسر وسهولة بما في ذلك مرحلة الإمبراطورية العثمانية وغياب الدولة العربية، وليس مرد ذلك عائداً إلى عمل متعمد ولكن كان لحماية علم الكلام سواء بالإقصاء الإرادي واللا إرادي، والبعد عن محاور الفعل والتغير كل هذا أعطى حماية وتأمين سلامة بأكبر قدر ممكن لجوهر الأصالة وحفظها.

سيكون من الرائع لو أن مثقفينا ومفكرينا في المملكة العربية السعودية أولوا مزيداً من الاهتمام بفن وعلم الكلام وإعادته إلى أصوله الأصيلة الخالصة من شوائب التصنع المظهري من خلال التخلص من تمثيل التمدن القهري التغريبي إلى الردة للذات؛ لكسب الثقة واستحضار العزة والفخر الذي بدورة يرتد للفعل والسلوك والأخلاق، وهذا أهم ثلاثي القوة للرقي والتطور الفعلي، استعادة الثقة للذات تحتاج أولاً إلى فهم الذات لذاتها بما يخلصها من تبعات المظهر والمشهد المتلون بصبغات براقة جاذبة لكنها في الحقيقة تستبدل علم الكلام بعلم السيبرناطقية المادية، على أن المطلوب في استعادة علم الكلام بدل العلم السيبرناطيقي ليس في إلغائه، وإنما استخدامها لغايات الترقي والتطوير تكتسب منها وتستفيد وتضيف، وهذا في حقيقة الأمر ربما هو المسار الأصح للتقدم والتطور.

فاصلة: أعلم أن الموضوع أكبر وأوسع من سطور في مقال ويحتاج إلى تفصيل وشرح وإسهاب، لكن رسالة المقال الصحفي في الغالب هي طرح واستحضار فكرة قد تستثير المهتمين والمختصين وبالتكاتف ننهض، رغم التأكيد على أننا رغم كل ذلك في المسار الصحيح لكن طموحنا أكبر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد