رأيت هذه التركيبة مراراً في العائلات الريفية الممتدة التي بدأت أولى خطوات الصعود الاجتماعي. أبٌ مكافح بنى نفسَه من الصفر فانتقل إلى مصاف حائزي الثروات الصغيرة. حكيمٌ يصر على أن يعيَ أبناؤه أنَّ الطريق طويل، والثروة سهلة الضياع، فلا يغتروا بما وُلدوا فيه، ولا يقطعوا المراحل في أسلوب حياتهم وأوجه إنفاقهم. بل يتعلمون من المهارات ما يمكِّنهم من صناعة عالمهم. ويحافظون على قدر من رأس المال يتخطى عتبة إنتاج الثروة.
الثروة الصغيرة طفل يُسعِدك النظر إليه، وتقلق من غدٍ ينتظره، تعلم أنه كائن في عمر حرج يحتاج من الرعاية أكثر مما يقدر على العطاء.
والثروة الصغيرة فتنة، أن تترفه اليوم بها أو تضبط نفسك لتستثمر فيها. تلك هي المسألة. ومنها تبدأ دراما الأبناء. الأكبر فيهم اخْضَرَّ شاربُه وغلظ صوتُه. وصار منتقداً لنهج أبيه. ووعد إخوتَه القُصّر بحياة أفضل في ظله.
لو انفتح شباك التورية أمام أعينهم، لعرفوا أن وعد الحياة الأفضل مجرد صياغة لمطلبه الحقيقي بإعلانه وصياً عليهم متصرفاً في ثروتهم.
وسوف يتحقق هذا بمجرد أن يغيب الأب. سيدلل الأخ الأكبر إخوته كما وعد. ويشعر الجميع بسعادة لحظية. وربما بعض سوء ظن إزاء الأب. من إرثهم دفع الأخ الأكبر لهم عربون تسليمه زمام أمورهم. ولن يتغير هذا حين يكتشفون أن السعادة لم تدم طويلاً بعد دفع العربون. فالمشكلة لم تكن في «توزيع الثروة» مرة، كما فعل الأخ الأكبر، بل في إنتاجها واستدامتها كما فعل الأب.
تتشابه العائلة الريفية مع السياسة في استخدام الخطاب الأخلاقي لتبرير الاستحواذ على الثروة. الأخ الزعيم لا يسيطر على الاقتصاد من أجل نفسه، حاشا وكلّا، بل من أجل القدرة على تحقيق عدالة التوزيع. والمستفيدون اللحظيون تعميهم الهبة عن إدراك الثمن، وتُنسيهم الأسئلة: كيف ستولِّد مزيداً من الثروة وقد وزَّعت رأس المال وفتَّتَّه؟ ماذا ستفعل حين تنقضي العطايا الصغيرة ونطلب المزيد؟
الدول التي أحرزت نجاحات مبدئية في الانتقال إلى الحداثة عائلات ريفية واثبة. والأخ الأكبر -بيغ براذر- يشبه الثورات الاشتراكية التي وثبت على التجربة قبل أن تكتمل. جورج أورويل أصاب بعبارته «الأخ الأكبر» قلب الاستعارة. الثورات السياسية كالانقلابات العائلية تزداد في أوقات «الثروة الصغيرة» للأمم، تغري أنصارها باستعجال القفز في الزمن، فيبحثون عن طرق لجمع المحصول قبل زراعته. والتأميم هو السعادة اللحظية بتوزيع الثروة أفقياً ولحظياً. والنتيجة الحتمية انحسار رأس المال، وانخفاض العوائد، وازدياد النفقات، واختلال النظام المحاسبي للدولة.
السلطة الاشتراكية كالأخ الأكبر؛ تكتب السيناريو حتى لحظة السيطرة على وسائل الثروة. ما بعد ذلك تختلف التفاصيل. في السياسة يتحكم موظفو الحكومة، بقدراتهم الفردية والجماعية المحدودة، في المسارات الاقتصادية الرئيسية والفرعية. إما بالامتلاك المباشر، وإما باللوائح المعطِّلة التي تجعلهم مربط الفرس في إيقاع ومدى وسقف وطبيعة مشروعٍ ما. وبالتالي يبقى الاستثمار الخاص، لكنه يتحول من وسيلة للثراء إلى مواسير فرعية هدفها مساعدة المركز على ضمان الكفاف. أهلاً وسهلاً ومرحباً به في هذا النطاق. محل بقالة، ممكن. مطعم صغير، جائز.
أما أن تتحول إلى ثري صغير يطمح أن يكبر، هنا فقط تواجه موظفي الذهنية الاشتراكية، تروس الحظ في لعبة السلم والثعبان. سترى براعتهم في تحويل الاستثمار إلى عملية شاقة عسيرة يمكن القضاء عليها في أي لحظة. مرة بقانون يوزع الأملاك فعلياً على المستأجرين، ويورثهم إياها. ومرة بمخالفات تموت بالهجران، وينساها الزمان، ثم يحييها الموظف من مرقدها وقت الحاجة. ومرات بقرارات ذات أثر رجعي، وأخرى فجائية لم يتحسبوا لها. وأحياناً بمزاحمة مباشرة وغير متكافئة لمشروع ناجح.
الذهنية الاشتراكية وثبت إلى الحكم في لحظة حيازة الثروات الصغيرة في تاريخ الأمم، وبالتالي تعرف خطورتها. وهي تربط ولاء الإخوة الصغار للأخ الأكبر باستمرار حاجتهم إليه. هذه ذهنية ريفية عابرة للقارات. في كل مجتمع تحكمه تزداد القاعدة الفقيرة اتساعاً يوماً بعد يوم، وتزداد الطبقة الوسطى اضمحلالاً يوماً بعد يوم. دون أن يضمحل الرجاء في الالتحاق بها والترقي عنها. لا بد من استمرار لعبة الآمال الموسيقية، حتى يحصل أحدهم على الكرسي الأخير. ثم تبدأ اللعبة فوراً من جديد.
الأثرياء ثراءً فاحشاً موجودون أيضاً في هذه التركيبة، بعدد محدود يمكن دائماً التحكم فيه. ربما تسألني: ما الذي ذكَّرني بالاشتراكية وقد انهارت آيديولوجياً منذ عقود؟
خطورة الذهنية الاشتراكية أن الآيديولوجيا فيها مجرد قشرة. إنما الكامن عصارة اجتماعية وسلوكية وأخلاقية. وبالتالي يتقبل الرأي العام منطقها كأنه بدهيات، خصوصاً -وهذه المشكلة- في الدول الفقيرة الساعية إلى تطوير اقتصادها. فيكون ما تتعاطاه داءً ويسميه الأخ الأكبر دواءً. الذهنية الاشتراكية بشعاراتها سبب أساسي للتخلف الاقتصادي.