عبدالرحمن الحبيب
هناك العديد من التفسيرات للتقلبات الاقتصادية على المستوى العالمي.. البعض يراه في التغيير الاجتماعي السريع، وخاصة فيما يتعلَّق بالهجرة مما يُغذّي رد فعل ثقافي حاد، بينما تقول حجة أخرى إن وسائل التواصل الاجتماعي التي سهلت انتشار المعلومات المضلّلة ونظريات المؤامرة أدت إلى تزايد التقلبات؛ وآخرون يجادلون بأن النخب أخطأت في استجاباتها لجائحة كورونا، وأخيراً ما انتشر بأن الرئيس ترامب أحدث انقلابًا في التجارة العالمية من خلال حزمة صادمة من التعريفات الجمركية ... إلخ.
يقول د. آرون بيناناف (جامعة كورنيل) مؤلف كتاب «الأتمتة ومستقبل العمل»: لا شك أن لكلٍّ من هذه النظريات جانبًا من الصحة، لكن ثمة قوةً أعمق تكمن وراء الفوضى الراهنة: الركود الاقتصادي! إذ يشهد العالم تباطؤًا طويل الأمد في معدلات النمو، بدأ بسبعينيات القرن الماضي، وتفاقم بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ولا يُظهر أي بوادر تحسن. يعاني الاقتصاد العالمي من انخفاض النمو، وتراجع الإنتاجية، وشيخوخة القوى العاملة، وهو في حالة ركود. يكمن هذا المأزق الاقتصادي المشترك وراء الصراعات السياسية والاجتماعية في جميع أنحاء العالم»، حسبما كتبه مؤخراً بمقال طويل في نيويورك تايمز بعنوان «هناك سبب لكون العالم بحالة فوضى، وليس ترامب».
يذكر بيناناف أن حالة مجموعة العشرين، وهي من أكبر اقتصادات العالم، تُخبرنا بالكثير عن حالة الاقتصاد العالمي، فالبيانات مُقلقة، إذ نمت ثمانية منها بأقل من 10 % منذ عام 2007، بعد تعديلها وفقًا للتضخم، بينما تجاوزت أربعة بلدان أخرى هذا الحد بقليل، وحافظت بعض هذه البلدان على معدلات نمو أقوى، لكن معظمها يعاني من ضائقة اقتصادية طويلة الأمد.
لماذا تباطأ النمو بشدة؟ يجيب بأن أحد الأسباب هو «التحول العالمي من التصنيع إلى الخدمات، فقد أدى ذلك إلى توقف المحرك الرئيسي للتوسع الاقتصادي: نمو الإنتاجية؛ فالإنتاجية - أي الناتج لكل ساعة عمل - يمكن أن ترتفع بسرعة في التصنيع. على سبيل المثال، يمكن لمصنع سيارات يُركّب خطوط تجميع آلية أن يُضاعف إنتاجه دون توظيف المزيد من العمال، بل وربما حتى تسريح بعضهم. أما في قطاع الخدمات، فيصعب تحسين الكفاءة؛ فالمطعم الذي يزداد ازدحامًا يحتاج عادةً للمزيد من النُدُل، والمستشفى الذي يُعالج المزيد من المرضى سيحتاج للمزيد من الأطباء والممرضات.. ففي الاقتصادات القائمة على الخدمات، تكون الإنتاجية دائمًا أبطأ في الارتفاع.»
ويضع الكاتب سبباً آخر للركود العالمي: تباطؤ النمو السكاني، حيث «ارتفعت معدلات المواليد بشكل حاد بعد الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى زيادة الطلب على المساكن وبناء البنية التحتية، وحفز طفرة ما بعد الحرب. وقد افترض علماء الديموغرافيا سابقًا أن معدلات المواليد ستستقر عند مستوى الإحلال، أي حوالي طفلين لكل أسرة، لكن بدلاً من ذلك، اتجهت معدلات الخصوبة إلى الانخفاض دون هذا الحد. هذا الاتجاه، الذي كان تاريخيًا نتيجة لقلة عدد الأطفال في الأسر، ولكنه مؤخرًا نتيجة لقلة عدد الأشخاص الذين يبدأون تكوين أسر، يؤثر الآن على ماليزيا والبرازيل وتركيا وحتى الهند.»
ويوضح بيناناف بأن هذه مشكلة كبيرة للاقتصاد، فتقلص القوى العاملة يعني أسواقًا مستقبلية أصغر، مما يُثني الشركات عن التوسع، حيث تميل التكاليف للارتفاع مع مكاسب إنتاجية محدودة؛ فيتعثر الاستثمار.. وفي الوقت نفسه، فإن انخفاض نسبة الأشخاص في سن العمل يعني انخفاض عدد دافعي الضرائب الذين يدعمون المزيد من المتقاعدين، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية، ويضغط على الحكومات لرفع الضرائب أو زيادة الديون أو خفض المزايا.
إذن، ما العمل؟ هناك طريقتان معقولتان للتعامل مع الركود يقول بيناناف، الأولى هي زيادة إنفاق الدول، مستغلةً العجز؛ فقد بُني الاقتصاد الأمريكي بقوة نسبية مقارنةً بالاقتصاد الأوروبي؛ والسبب الرئيسي، وإن لم يُقدّر حق قدره، واضح: فالولايات المتحدة تُعاني من عجز كبير في الميزانية تجاوز متوسطة 6 % من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2009، بينما حافظت أوروبا على انضباط مالي أكثر صرامة. يمكن للإنفاق بالعجز أن يُحفّز النمو، لا سيما عند توجيهه نحو الاستثمار العام، فمثلاً يُمكن لدفعة قوية نحو التحول الأخضر أن تُحفّز النشاط الاقتصادي لسنوات قادمة.
النهج الثاني هو إعادة التوزيع؛ ففي الماضي، كان الأساس المنطقي الرئيسي للسياسات التي تُثري الأسر الثرية هو تحفيز النمو من الأعلى إلى الأسفل، لكن من الواضح أن هذه الإستراتيجية قد فشلت. بدلاً من ذلك، يُمكن للحكومات فرض ضرائب أعلى بكثير على الأغنياء وإعادة توزيع الدخل على بقية المجتمع. يقول بيناناف: «صحيحٌ أن هذه ستكون مهمةً شاقةً في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، لكنها ستُحقق فوائد كبيرة، إذ تُحسِّن طلب المستهلكين وتُعزِّز الأسواق محليًا ودوليًا. لكن ذلك يجب أن يترافق مع إجراءات أخرى لتحسين نوعية حياة الناس في المجتمع، مثل إصلاح النظم البيئية، وإعادة تأهيل البنى التحتية».
ومع ذلك يعترف الكاتب بأن مقترحاته بطبيعة الحال لن تُحقق الاستقرار العالمي تلقائيًا، فمن المؤكد أن صراعاتٍ سياسيةً جديدةً ستنشأ مع تبلور هذا المستقبل البديل، ولكنه يأمل أنه بالنظر إلى الطريقة التي تسير بها الأمور، يبدو الأمر جديرًا بالمحاولة.