يأتي رئيس أميركي ليقول إن الوقت حان لتغيير نظام دولة بشكل شامل، وذلك يعني أن جميع موظفي الدولة الذين كانوا يقومون بواجبهم في تطبيق تعليمات النظام السابق عليهم أن يدفعوا ثمن أدائهم عملهم، بشكل مؤقت أو دائم. بعد ذلك، تضرب زوبعة سياسية العمل الحكومي وتمس أروقة الدوائر الرسمية كافة لأسابيع عدة... لكن تبقى آثارها لسنوات طويلة. كان هذا النهج الذي اتبعته واشنطن ومن حالفها في العراق عقب حرب عام 2003 عند الإعلان عن «اجتثاث البعث»، وتفكيك عناصر حيوية للدولة العراقية مثل الجيش والشرطة، في قرارات طالت معظم مفاصل الدولة. ما زال العراق يشعر بترددات تلك القرارات على موظفي الدولة، من فقدان لخبرات عديدة إلى استخدام قرار «الاجتثاث» بين تارة وأخرى لمحاربتهم سياسياً ليومنا هذا. ذلك لا يعني أنَّ العراق لم يكن بحاجة إلى تغييرات جذرية في أداء الحكومة وبشكل أخص محاسبة المسؤولين عن جرائم النظام السابق. إلا أن إجراءات تعسفية شاملة طالت ملايين الموظفين بدرجات مختلفة من التأثير لا تعالج الأخطاء والجرائم ولا تحمي البلد. بل تلك الإجراءات أدَّت إلى إضعاف الدولة من جهة ومعاناة الملايين مع الفصل من العمل الذي أثر على معيشة عائلات كل من طالهم الفصل - إن كان لفترة محددة قبل العودة إلى العمل أو بشكل نهائي.
اليوم تشهد واشنطن «اجتثاثاً» خاصاً داخلياً بقرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس التنفيذي المسؤول عن التطبيق إيلون ماسك. القرارات تأتي بشكل سريع وبشكل ربما نقول عنه إنه تعسفي منذ تسلّم الرئيس ترمب السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي. إلا أن المبدأ، بأن هناك مشاكل جذرية في إدارة شؤون الدولة الأميركية، يتفق معه كثيرون، ممَّا يؤدي إلى حاجة ماسة إلى تغيير طريقة العمل. على سبيل المثال، بدلاً من مراجعة التمويل الإنساني الخارجي للولايات المتحدة، قرر ترمب تجميد جميع المساعدات لمدة تسعين يوماً فور وصوله لسدة الحكم. وأغلق المقر الرئيسي لدائرة «يو إس أيد» المسؤولة عن المساعدات الخارجية وإرغام جميع موظفيها على العمل من المنزل، بينما اضطرت شركات تعتمد على عقود «يو إس أيد» إلى أن توقف الآلاف من موظفيها عن العمل، فمثلاً منظمة الهجرة الدولية اضطرت إلى فصل 3 آلاف من موظفيها في الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تتصاعد الأعداد في الأسابيع المقبلة. مشاعر من الحيرة والغضب والخوف تطول الملايين من الموظفين وعائلاتهم، في الولايات المتحدة وبين المستفيدين من البرامج الأميركية في الخارج.
الفوضى التي طالت العراق بعد حرب عام 2003 لها خصوصيتها بالطبع، وهناك حدود واضحة لإمكانية المقارنة بين العراق والولايات المتحدة. لكن لا يمكن تجاهل أوجه التشابه. بالنسبة للأميركيين، على الرغم من مرورهم بفترة حرجة وصعبة، فإنَّ بلدهم بشكل عام في وضع مستقر ولا يمر بحرب تهدد أمنهم الشخصي ولا يتم استهدافهم - حتى الآن. لكن الفوضى التي يعيشها الموظفون الأميركيون والخوف من تبعات قرارات غير مدروسة تشابه ربما ما جرى في العراق بعض الشيء.
اليوم العراق يتعافى من سياسات الحاكم الميداني الذي نصبه الأميركيون على العراق بول بريمر تدريجياً، لكن ما زال قانون «اجتثاث البعث» يطبق بين حين وآخر لأغراض سياسية، لا للمحاسبة الحقيقية التي لم يشهدها العراق بعد عقدين من سقوط النظام السابق، بل غالباً للنيل من الخصوم السياسيين. وقد تلاشت النداءات لحوار وطني يعالج المشاكل الداخلية أو العمل على تعديل الدستور لضمان حقوق الجميع. المفارقة أن الولايات المتحدة، التي لطالما أعلنت في بيانات رسمية ومؤتمرات صحافية أنه من الضروري إجراء مصالحة وطنية في العراق وغيره من دول، تدخلت واشنطن في شؤونها، هي اليوم في أمس الحاجة لمصالحة وطنية.
بدلاً من الحوار الوطني في كل من العراق والولايات المتحدة، الأنظار تتجه للانتخابات لتعديل المسار بعض الشيء. من المتوقع أن تجري انتخابات تشريعية في العراق هذا العام، لكن مع مشاركة ضئيلة في السنوات الماضية من شعب لا يرى التغيير الحقيقي عبر صناديق الاقتراع، قد لا تكون مشاركة واسعة للمتضررين مضمونة مما يؤجل إمكانية تعديل المسار.
22 عاماً وخمس دورات من الانتخابات التشريعية، لا يعول موظفو الدولة في العراق أو من مستهم إجراءاتٌ تعسفية كثيراً على الانتخابات بحد ذاتها، بل على تغيير في النهج السياسي بشكل واسع. مشاركة بنسبة عالية في الانتخابات، والمطالبة ببرنامج حكومي ينفع البلد بكل مكوناته ويمنع الفساد؛ هما المسار الأنسب للعراق - والولايات المتحدة.
ففي أميركا، هناك الانتخابات النصفية يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2026 حيث تطول الانتخابات 435 مقعداً في مجلس النواب الأميركي، و33 من 100 مقعد في مجلس الشيوخ الأميركي لتحدد الدورة الـ120 للكونغرس الأميركي. يعول المعارضون لترمب والكثير من الذين تؤثر عليهم القرارات الجديدة على فوز الديمقراطيين في انتخابات الكونغرس لوقف تطبيق بعض سياسات ترمب أو التخفيف منها. وبينما يتوقع أن يكسب الديمقراطيون مجلس النواب، عليهم الإبقاء على 13 مقعداً التي يسيطرون عليها في مجلس الشيوخ والحصول على 3 مقاعد من الجمهوريين أو المستقلين، للسيطرة على مجلس الشيوخ. وهناك 88 أسبوعاً تفصل بين ترمب وتلك الانتخابات، قد تدفعه إلى المزيد من العجلة في تطبيق أجندته وإحداث المزيد من الإرباك.
المقارنة بين العراق والولايات المتحدة قد لا تكون منطقية لكن لا بد من التوقف عند مفارقة تاريخية تسلط الضوء على «الاجتثاث» وعلى من أدخلوه على العراق ولم يحسبوا حساب يوم مشابه في عقر دارهم.