محمد ناصر العطوان
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد!
أيُّها السَّادة المُستنيرون بقوة 100 فولت، أيُّها الحُكماء الذين حوَّلتم مجتمعاتنا إلى «سيرك» كبير يتبارى فيه الجميع في إلقاء الأضواء على ذواتهم... أتوجَّه إليكم بِهذه الرِّسالة المُتواضعة، لا لأُهنِّئكم فحسب، بل لأرفع لكم «العقال» إجلالاً أمام إنجازاتكم التي حقَّقتموها خلال رُبع قرن من الزَّمن!
نعم، لقد نجحتم في أن تَجعلوا مِن كلِّ فرد فينا «محور الكون» يَعْبُدُ نفسَه، ويُصدِّق أنَّ صوته هو السَّيمفونية الوحيدة التي يجب أن تَسْمعها البشرية!
أما الإنجاز الأكبر فهو ذلك الانتشار الواسع لـ «النرجسية المقدَّسة»، التي حوَّلت الفرد إلى كائن يُردِّد طوال اليوم: «أنا.. أنا.. أنا!» ويقول «لا تخرب يومي، ولا تعكر مزاجي» كائن لحظي، حتى صارَ المرءُ يُصدِّقُ أنَّ تغريدةً على منصة «X» عن كوب القهوة الذي صنعه بيده إنجاز يُعادل اكتشافَ البنسلين! ناهيكم عن الظاهرة التي جعلت كل مَن هبَّ ودبَّ خبيراً في السياسة والاقتصاد والفن... وكأنَّ امتلاك هاتف ذكي مؤهِّل للحديث في كلِّ شيء!
وهاكم مثال مِن أرض الواقع: سيدة فاضلة (أو فلنقلْ: عظيمة) زوجة صديق لي قررت أن تبحثَ عن «ذاتها المفقودة» بعد عمر الخمسين بين أضواء الشُّهرة والمهنة والإبداع، فَرَمَت بزواجها وأطفالها خلفَ ظهرها، ورمت بكل مفاهيم الأمومة من النافذة، وكأنَّ الرِّعاية وَصمَة تُناقضُ العظمةَ! الآنَ هي تُشاركُ العالمَ صورها مع هاشتاج على غرار #أنا_المرأة_الحديدية، بينما أطفالُها يَبحثون عنها في تعليقات المتابعين! يا له مِن انتصار للتحرُّرِ... أو فلنقل: للغرورِ المُقدَّس!
أمَّا النصف الآخَرُ مِن المجتمع – فأولئكَ الذين أدركوا أنَّ النرجسية واجب – وأن العنصرية أمر بدهي، فقد منحتموهم هدية لا تُقدَّر بثمن: حياة مليئة بالفراغ الوجودي، والقلق المُزمنِ، وانفجاراتِ الغضب التي تَجعلُ قيادةَ السيارةِ مَشهداً مِن «فاست آند فيوريس»!
فالشاب اليومَ لا يستقر في عمل أو زواج... يَشتري أحدث «iPhone» ليملأَ فراغَ روحه، ثم يَكتشف أنَّ التحديثات لا تشملُ مشاعره!
ولا أنسى أن أشكركم على ازدهارِ سوق «اللايف كوتش» والعيادات... لقد نجحتم في استبدال شيخ الدين بِمُدربينَ شخصيين يُعلِّموننا كيف نَتأمَّل بـ 60 ديناراً في الساعة، وبِمضادات الاكتئاب التي صارت حلوى نَتهاداها في كل مناسبة! فَشكراً لكم... لقد حوَّلتُم «الفرح» إلى حَبَّات تُؤخذ بالماء، و«الطمأنينة» إلى فواتير نُسددها لعياداتكم الفاخرة!
ختاماً... دمتم لنا قُدوة. في صناعة مجتمعٍ يَئِنُّ تحت وطأةِ العظمة الوهمية، ويَلهثُ وراءَ السراب... فَبِكُم تحقَّق الحلم: أن نَكون جميعاً «مشاهير»... حتى لو كُنَّا نُمارس الشُّهرة في غُرفِنَا المُظلمة أمام مرايا الذات!
وأنت عزيزي القارئ... ابق على حِسك الفُكاهي... فالحياة دون سخرية أشبهُ بِعقار مِن دون آثار جانبية، وتذكّر أن كل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.
مرسل من:
ابن البلد الذي ما زال يَتساءل: مَن يُطفئ النيران التي أَشعلتُموها في أرواحنا؟!