عبدالرحمن الحبيب
منذ فجر القرن الحادي والعشرين، كان الغرب في أزمة.. تهدد الاضطرابات الاجتماعية، والاستقطاب السياسي والشعبوية، وصعود القوى العظمى الأخرى - وخاصة الصين - بتفكيك النظام العالمي الذي يقوده الغرب اليوم..
يخشى الكثيرون أن يؤدي هذا إلى فوضى عالمية، لكن هذا وَهْمٌ غربي، بل إن تراجع الغرب قد يكون أمرًا جيدًا لمستقبل العالم..
النظام العالمي ليس حكراً على أي حضارة أو أمة، فقواعده جاءت من حضارات سومر القديمة والهند والصين واليونان وأمريكا الوسطى، مروراً بالخلافة الإسلامية في العصور الوسطى والإمبراطوريات الأوراسية إلى الحاضر مع الهيمنة الغربية، وهذه الهيمنة تنهار من الداخل.
هذه الآراء المفاجئة زبدة كتاب جديد بعنوان «النظام العالمي الحالي والمستقبلي: لماذا ستنجو الحضارة العالمية من تراجع الغرب» (The Once and Future World Order: Why Global Civilization Will Survive the Decline of the West)، في توجه معاكس للتيار المتخوف من تفكك النظام العالمي الحالي، من مؤلف له باع طويل في هذا المضمار، فهو أميتاف أشاريا (Amitav Acharya) بروفيسور في الجامعة الأمريكية بواشنطن، ويشغل كرسي اليونسكو للتحديات والحوكمة العابرة للحدود الوطنية بكلية الخدمة الدولية، ويعمل رئيسًا لمركز دراسات رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهو أمريكي من أصل هندي.
يرى البروفيسور أشاريا أن نهاية الغرب وتفكك النظام العالمي ذي القطب الواحد لن تؤدي إلى الفوضى بل ربما لنظام أفضل، يقول: «إن فكرة الغرب ولدت من الإمبريالية والإقصاء والعنصرية والحرب، لكن الغرب لا يحتكر بناء النظام العالمي عندما يُنظر إليه من منظور بعيد الأمد، فالنظام العالمي الحالي له أصول عالمية متعددة.. قد يكون انحدار الغرب - الذي نأسف عليه كثيرًا الآن - أمرًا جيدًا للسلام والنظام العالمي.»
ويضيف فكرة أخرى معاكسة للباحثين: «هناك العديد من الباحثين الذين يلقون باللوم على الجنوب العالمي في صراعات اليوم.
إنهم يرغبون في «تقاعد» فكرة الجنوب العالمي. أنا أزعم خلاف ذلك. قبل أن نتخلى عن فكرة الجنوب العالمي، علينا أولاً أن نتخلى عن فكرة الغرب. إن تراجع الغرب ونهاية وجوده ككيان سياسي قد يكون مفيداً للعالم. ومن الممكن أيضاً أن نحقق المصالحة بين الغرب وبقية العالم».
يوضح أشاريا أن الهيمنة الليبرالية أو النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة أصبح في نهايته، ولم تقوضه قوى أخرى ولكن من داخل الدول الغربية.. هذا لا يؤدي إلى عالم متعدد الأقطاب تهيمن عليه القوى العظمى فالعديد من الجهات الفاعلة ذات الأهمية اليوم ليست قوى عظمى، بل قوى أخرى، بما في ذلك القوى الإقليمية والجهات الفاعلة غير الحكومية، فهذا عالم متعدد الأجزاء أو الوحدات، وليس متعدد الأقطاب.. والتنوع الثقافي والأيديولوجي قائم وسيبقى وهو إيجابي.
في أحد تعليقاته يتساءل: ما هي مخاطر هذا العالم الجديد؟ ثم يجيب مؤكداً أن معظم الصراعات اليوم محلية وعابرة للحدود الوطنية، ومن أهمها الشعبوية الصاعدة.. فلماذا تصاعد الشعبوية؟
أولاً، يتجه الزعماء السياسيون والأحزاب - حتى الليبرالية منها - في الغرب إلى الداخل، ويحاولون استرضاء المشاعر المعادية للمهاجرين؛ ثانياً، بسبب عدم قدرتهم على المنافسة وخوفهم من صعود الدول غير الغربية، فإنهم يتبنون الشعبوية والعنصرية ويبتعدون عن العولمة الشاملة.
ويطرح أشاريا الاستجابات المطلوبة، وهي: أولاً، بناء تحالفات عابرة للحدود الوطنية لمعارضة الشعبوية والحركات السياسية اليمينية المتطرفة؛ ثانياً، الجميع يركزون على تحول القوة، وليس التغيير السلمي، فإحياء دراسات السلام التي سقطت من الاهتمام أمر بالغ الأهمية؛ ثالثاً، نحن بحاجة أيضًا إلى إنهاء الانقسام بين الغرب وبقية العالم.
النظام العالمي ليس حكراً على أي حضارة أو أمة كما يؤكد أشاريا، فالعديد من المبادئ والآليات الأساسية للنظام العالمي، مثل الدبلوماسية، والترابط الاقتصادي، وأنظمة الدول المستقلة، والتعاون بين القوى العظمى، وحرية البحار، والحرب العادلة، والنظام الدولي القائم على القواعد، جاءت من حضارات في آسيا وأفريقيا وأميركا ما قبل كولومبوس، بقدر ما جاءت من أوروبا والغرب.. ومع ذلك، وبفضل قرون من الهيمنة الغربية، أصبحت أفكار ومساهمات الحضارات الأخرى غير مرئية ولا تزال تُرفَض في الغرب.
والواقع أن الاعتراف بالإبداع المشترك للنظام العالمي أمر بالغ الأهمية للاستقرار والازدهار في المستقبل، وفي حين لا يمكن لأي نظام عالمي أن يكون خالياً من الصراع، فإن نهاية الهيمنة الغربية ينبغي الاعتراف بها واحتضانها باعتبارها تطوراً لا مفر منه، وهو التطور الذي يقدم فرصة لبناء ترتيب عالمي أكثر عدالة واحتراماً متبادلاً.
الكتاب يمر على التاريخ العالمي من خلال مسح خمسة آلاف عام من الحضارات البشرية ليكشف أن النظام العالمي كان موجودًا قبل فترة طويلة من صعود الغرب، وليُظهر أن القيم الإنسانية، والترابط الاقتصادي، وقواعد السلوك بين الدول نشأت في جميع أنحاء العالم على مدى آلاف السنين.. مستنتجاً أن التاريخ يشير إلى أن النظام العالمي سيستمر حتى مع تراجع الغرب.. فبدلاً من الخوف من المستقبل، ينبغي للغرب أن يتعلم من التاريخ ويتعاون مع بقية العالم لصياغة نظام أكثر عدالة.