: آخر تحديث

المجاعة أكبر من غزة

1
2
1

«لقد فاز هتلر، عندما حوّلنا نحن اليهود إلى أمة شريرة تلاحق وتقتل الأطفال والنساء»، قالت غاضبة الممثلة ميريام مارغوليس، التي بلغت الثالثة والثمانين وتشعر بالخزي والحرج؛ لأن غالبية بني جلدتها لا يرون خطورة فيما ترتكبه إسرائيل بحق شعب، لا هو من قتلهم، ولا حاول إفناءهم، ولا صلة له بكل الجرائم النازية، ومع ذلك يتم تدفيعه الثمن.

مارغوليس محقة؛ لأن الإبادة في غزة وصلت صرخات ضحاياها إلى كل بقعة، ومع ذلك، نصف الإسرائيليين لا يزالون يرون أن ما ينشر هو مجرد دعاية لـ«حماس». وبحسب استطلاع جديد نشرته «وول ستريت جورنال»، فإن 79 في المائة من الإسرائيليين لا يشعرون بأي تأنيب ضمير تجاه المدنيين الفلسطينيين، ويسمون الكارثة التي فاضت فأغرقت الضمائر وجعاً: «أزمة إنسانية». وفي استطلاع آخر 70 في المائة يعارضون إرسال مساعدات حتى عبر هيئات دولية. هؤلاء رأينا بعضهم يمنعون شاحنات المساعدات من الوصول إلى المجوعين. 64 في المائة يتبنون مقولة «لا يوجد أبرياء في غزة»، وأقل من ربع الإسرائيليين فقط، في دراسة صدرت قبل أيام، أيدوا أن تأخذ العمليات العسكرية في الاعتبار معاناة المدنيين.

إجابات مروعة، أرقام مفزعة، ويزداد استهجانك؛ لأن تنامي المعارضة داخل إسرائيل للتجويع واستمرار الحرب على غزة، ليس عائداً لمبدأ أخلاقي، وإنما رغبة في تحرير أسراهم من موت محقق، ومراعاة للمزاج الدولي، خصوصاً في الولايات المتحدة، بعد أن فقدت إسرائيل تأييد الغالبية الديمقراطية، وأخذت تخسر من رصيدها بين الجمهوريين، كما أن جهاز الدعاية الصهيونية الذي كان محلقاً في فاعليته لعشرات السنوات، يجد نفسه أمام صدود واتهامات يصعب ردها، حتى وسط شعوب كانت من أكبر المؤيدين لإسرائيل.

أين المفرّ؟ الصور المرعبة تنتشر بكثافة، ولم يعد مصطلح «إبادة» و«جريمة حرب» و«مجاعة» مما يتردد المسؤولون الأمميون في استخدامه لوصف حال بؤساء غزة. المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر ترك اتهم إسرائيل بفرض «قيود شاملة، وتدمير البنى التحتية المدنية، مما أوصل إلى استخدام التجويع، وهو ما يُعد جريمة حرب». كبير المستشارين في «أمنستي» محمد دوار يطالب بتقديم المسؤولين عن الإبادة الجماعية والتجويع المتعمدين، إلى العدالة. فإذا كان الإسرائيليون يبتغون فائدة من مواجهة العالم أجمع، وتكذيب تقارير الهيئات الدولية، والبث المباشر، فلماذا تصمت الدول الكبرى، وتستمر في تغذية الإبادة، ومدّ الجيش الإسرائيلي بالسلاح، وتقتصر مواقفها على التنديد والتهديد بوقف التعاون الاقتصادي أو بعض العقوبات، إن لم يحدث تغيير؟ وإسرائيل لن تستجيب ما دام أن التواطؤ هو السمة الكبرى.

صمت اليوم لا يعني النجاة غداً. حجم كارثة غزة، وطول أمدها، وفداحة تعداد ضحاياها، تشي بأنها لن تكون مجرد مأساة تخص أهلها. ثمة حروب مفصلية يتغير بسببها العالم، بعد أن تهز الوجدان. ولا يستبعد محللون أن ما ستنجلي عنه مشاهد غزة بعد وقف المعارك من آلام مجذومين، وكثرة مشوهين، ودموع يتامى، وفجيعة أمهات ومشردين، سيجعل ردود الفعل ارتجاجية. وهو ما يتحسب له بنيامين نتنياهو. هناك من يتوقع أن تتجاوز الارتدادات ما حدث بعد تكشّف شناعة المحرقة اليهودية ومعسكرات الاعتقال، حيث دخل العالم في صدمة أخلاقية، آثارها ممتدة إلى اليوم في منطقتنا كلها.

أسئلة كثيرة مشروعة، بعد أن أصبح القتل بالتجويع، الذي هو أقسى من الحرق بالقنابل، مقبولاً ومستساغاً، هل ستفلت إسرائيل من العقاب؟ وإن حصل هذا ألن يؤدي إلى تكرار النموذج الوحشي في أماكن أخرى، من دون أن يعبأ أحد؟ هل تكون نهاية الهيئات الدولية، وبداية علاقات تقوم على سطوة الأقوى، وسيطرة من يقتل أكثر؟ ألا تؤسس سابقة غزة لعالم بملامح غير التي نعرفها؟ هل سيجرؤ أحد في حروب مقبلة على ذكر حقوق الإنسان، أو حماية المدنيين، وحرمة الجرحى والمستشفيات والأطفال والمسنين؟ هل سيبقى من حرمة أصلاً؟

لسنا أمام مجرد جريمة، بل أمام طعن لكل المبادئ التي أسست لتنظيم الهمجية البشرية، بعد مذابح الحرب الثانية. غزة تعيدنا إلى زمن الحصار الروماني، وحصار ستالينغراد وليننغراد، لا بل أسوأ. فالمدينة الأولى يضرب بها المثل، مع أن حصارها فكّ بعد 71 يوماً والثانية بعد 872 يوماً. أما غزة فحصارها مستمر منذ 17 عاماً قبل أن يفرض عليها الاختناق التام في السنتين الأخيرتين. تبدو غزة بلا شبيه يمكن مقارنتها به، فهي حالة متفردة في التفنن في التعذيب، مما يستدعي نتائج يصعب قياسها أو توقعها.

تتسابق النظريات السوسيولوجية والنفسية على تصور البشرية في اليوم التالي لغزة. تنقسم الآراء بين من يحذر من بشرية متبلدة المشاعر، مخدرة تحت وطأة الصور القاتلة، لن تبالي باستباحة أي شيء، ذلك تبعاً لنظرية «التعب الأخلاقي». فيما نظرية «العدالة العاطفية» تقول العكس، وتبشرنا بإعادة تشكيل الضمير العالمي الذي ستمسه اليقظة، تحت تأثير قصص الغزيين وفيديوهاتهم.

تتناقض النظريات، لكنها تتفق على أن هول غزة سيكون له ما بعده، حتماً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد