نعرف كثيراً من العرب وغيرهم فرحوا بالغزو العراقي للكويت عام 1990. أعتقد أن هؤلاء أقلية صغيرة جداً. صحيح أننا سمعنا - لحظة الحدث - أصواتاً كثيرة، بعضها مؤثر، صفقت لذلك القرار الكارثي. وقد عبر كل فريق في وقته عن موقفه من دون تحفظ. لكن لو أردنا الحكم على أولئك في هذا اليوم، فعلينا أن نلاحظ أثر الزمن في تكوين المواقف وتعديلها.
في لحظة الحدث، ينفعل الناس بتموجات القوة التي يطلقها الفعل القوي، فيقتربون من الفاعل، حتى لو كانوا، في سابق الأمر، متشككين في أفعاله. لكنهم بعدما تنتهي الموجة الأولى من ارتدادات الفعل، يبدأون في تلمس عواقبه السلبية، فيعيدون النظر في موقفهم الأول. وهذه حالة نفسية معروفة في كل المجتمعات؛ التأييد الهائل للزعيم في الساعات الأولى من الحدث يتحول بالتدريج إلى ترقب، ثم إلى فتور، ثم إلى رفض صامت أو علني لسياساته.
حين نحلل مواقف الناس، جمهوراً أو نخبةً، فينبغي ألا نحكم على موقف اللحظة الأولى؛ لأنه غالباً ما يكون رد فعل على تموج القوة، وهو، وإن كان يُحسب على صاحب الموقف سلباً أو إيجاباً، لا يدل على قناعاته الراسخة والطويلة الأمد، أي تلك التي تشكل هويته وشخصيته. ومن هنا، فقد يكون من غير المنصف أن نحكم على الناس اليوم بناء على مواقفهم لحظة الغزو الكارثي... بل حتى لو كنا قد حكمنا عليهم لحظتها، فعلينا في هذا اليوم أن ننظر إلى حالهم وموقفهم الآن.
الحقيقة أن هذا ظاهر حتى في العراق، حيث كان معروفاً أن القرارات الكبرى تُتخذ ضمن دائرة ضيقة، لا تتعدى 5 أو 6 أفراد. وبشأن غزو الكويت، فقد علمنا لاحقاً أن معظم قادة الدولة والجيش سمعوا عنه من أجهزة الإعلام، قبل أن يحصلوا على المعلومات الرسمية. وعلمنا أيضاً أن كثيراً منهم جُرّدوا من مناصبهم أو هربوا من البلاد؛ لأنهم ترددوا في تأييد القرار أو عارضوه أو حاولوا التحذير من عواقب الاستمرار فيه.
ومع أن غالبية الذين أيدوا القرار الكارثي تراجعوا بعدما أدركوا عواقبه، إلا إنه ليس مستبعداً بقاء عدد ضئيل من الأفراد يواصلون تعاطفهم؛ كراهيةً في الكويت وليس حباً في صدام أو اقتناعاً بأفعاله. ينبغي ألا يُتخذ موقف هؤلاء ذريعة لوصم مواطنيهم أو بلدانهم جميعاً بالتعاطف مع الغزاة. من الأمثلة التي تقابل هذا، تعاطف اللحظة الأولى مع تنظيم «القاعدة» حين هاجم الولايات المتحدة... لكن جميع من تعاطف أدرك لاحقاً العواقب الكارثية لذلك الهجوم. لا أحد اليوم يحاسب الكويت أو الخليج على تعاطف قلة من مواطنيهم مع «القاعدة» أو «داعش»، فكل عاقل يدرك أن الأمور مرهونة بأوقاتها وظرفها الثقافي والنفسي.
يتضح إذن أن الغرض من هذه المرافعة، هو دعوة إخوتي الكويتيين خصوصاً والخليجيين عموماً، إلى التحرر من الانحباس العاطفي في حدث الغزو. أعلم أنه حادث جلل، وكارثة ما زالت مفاعيلُها في الكويت وحولها جليةً واضحة. وأقدر أيضاً أن مثل هذه الحوادث تخلف شروخاً عميقة في أنفس الناس وثقافاتهم، وفي منظومات القيم والانشغالات الذهنية، وأفهم أن أثرها في الكويت ما زال عميقاً إلى اليوم... لكن - من جهة أخرى - لا بد للناس من أن يتحرروا من سجن التاريخ. لا يمكن للإنسان أن يبني مستقبلاً إن لم يتعمق فيه اليقين بأن فعله سيجعل المستقبل أزهى وأفضل. هذا اليقين يصعب جداً بناؤه في ظل ما يمكن وصفه بمأتم متواصل، واستذكار لمشاهد تخلد الكراهية والتنافر والخوف من العالم. يجب أن نكرس إيماننا بأننا قد تجاوزنا ذلك التاريخ، وأن لدينا القدرة على صناعة حاضر لا ينتمي إليه ولا يتأثر بأوجاعه.