سارا القرني
في زمنٍ تكسَّرت فيه الحواجز بين العالم الواقعي والعالم الرقمي، صار الفراغ هو البوابة التي نمرّ منها طواعية نحو هاوية لا قاع لها. لم يعد الفراغ مجرد وقت ضائع.. بل أصبح مساحة تغزوها التطبيقات، وتُعيد تشكيل وعينا، اهتماماتنا، وحتى مشاعرنا.
في الإجازات، في عطلة نهاية الأسبوع، في الصيف الذي كان يُفترض أن يكون موسمًا للذكريات.. غابت الأرواح، وحضرت الشاشات. المراهق في غرفته، الشاب في مقهاه، الأم على سريرها، والأب على مقعده، وكلّهم يبدون وكأنهم يعيشون.. لكنهم غائبون. غائبون عن من يحبهم، عن محيطهم، عن الحياة الحقيقية.
المعضلة ليست في التقنية، بل في الاعتماد المُطلق عليها لملء فراغنا العاطفي والفكري. حين تُصبح الشاشة صديقك الأقرب، والمحتوى المتداول غذاءك اليومي، تُصاب أرواحنا بتشوّهات خفية لا نراها.. إلا حين نخسر أنفسنا.
الخطر الأعظم يكمن حين يتسلّل هذا الانشغال إلى الفئات العمرية الحساسة.. المراهقون الذين يبحثون عن هوية، وعن من يسمعهم. والشباب الذين يحتاجون إلى توجيه لا إلى تسلية. والراشدون الذين اختنقوا من صمت بيوتهم، فبحثوا عن بدائل مزيَّفة.. خلف الأضواء الزرقاء.
وهنا تبدأ اللعبة الخطيرة:
فتاة تهزّ خصرها لتصطاد قلبًا وحيدًا.
وشاب يكتب شعرًا ليصطاد قلبًا جائعًا للحنان.
وامرأة تجاوزت منتصف العمر تبحث عن فتات الاهتمام.
ورجل ضاع منه شبابه.. فبدأ يغازل أيامه عبر صور وهمية.
أنا لا أُعارض الحب في أي عمر، لكني أرفض أن يكون الحب لعبة في يد من لا يعرفون قيمته. أن يكون وسيلة صيد.. لا وسيلة نجاة. أن نبني مشاعرنا على بضع كلمات منمقة أو صور من فلاتر.
الفرق بين الحب والاستغلال.. الأخلاق.
والفرق بين الاتصال الحقيقي والافتراضي.. النية.
نحن لا نحتاج إلى مزيد من التطبيقات، بل إلى مزيد من الإدراك. إلى لحظة وعي تقول لنا: كل ما يُلمّع ليس ذهبًا، وكل من يبتسم في الشاشة.. لا يحمل بالضرورة قلبًا صادقًا.
أعدوا بناء العلاقات الحقيقية، عيشوا اللحظة، أعيدوا الدفء للمجالس العائلية، لا تجعلوا من الهاتف نديمًا، ومن التطبيقات سُلطة على مشاعركم.
لأن الفراغ ليس عيبًا.. لكن ملأه بما يُهدرنا، هو الخسارة الكبرى.